فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَكَذَلِكَ مَا يكال ويوزن " فنهى عَنِ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُبَاحٌ وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مَحْظُورٌ وَلَيْسَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي الْمُبَاحُ مِنَ التَّفَاضُلِ الْمَحْظُورِ إِلَّا بِالْكَيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّتَهُ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ بِهِ يَمْتَازُ الْمُبَاحُ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَلِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ وَالْكَيْلَ مِقْدَارٌ وَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا وَهُمَا الْمَقْصُودُ فِي الرِّبَا فَثَبَتَ أَنَّهَا عِلَّةُ الرِّبَا. فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَائِلَ احْتَجَّ بِهَا أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ.
فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَطْعُومُ عِلَّةً فَأُمُورٌ مِنْهَا:
أَنَّ الطَّعْمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ مُخْتَلِفٌ، وَالْكَيْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ مُؤْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ إِدَمًا، وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا، وَالْكَيْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْمَطْعُومِ الَّذِي يَخْتَلِفُ، وَلِأَنَّ الْمَطْعُومَ صِفَةٌ آجِلَةٌ لِأَنَّ الْبُرَّ لَا يُطْعَمُ إِلَّا بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ، وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ لِأَنَّهُ يُكَالُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ وَلَا صَنْعَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مِنْهُ مُتَعَلِّقًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ كَانَ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ الْعَاجِلَةِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ الْآجِلَةِ.
وَلِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ هِيَ مَا مَنَعَتْ مِنَ التَّفَاضُلِ وَأَوْجَبَتِ التَّسَاوِيَ وَقَدْ يُوجَدُ زِيَادَةُ الطَّعْمِ وَلَا رِبَا وَلَا يُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ إِلَّا مَعَ حُصُولِ الرِّبَا وَبَيَانُهُ:
لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ثَقِيلٍ لَهُ رُبْعٌ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ خفيف ليس له ريع جَازَ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الرِّبَا وَوُجُودِ التَّسَاوِي فِيهِ مَعَ حُصُولِ الرِّبَا، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ مُثْبِتٌ لِلرِّبَا وَالتَّسَاوِي فِيهِ كَافٌّ لِلرِّبَا، فَهَذَا أَقْوَى تَرْجِيحَاتِهِمُ الثَّلَاثَةِ.
فَصْلٌ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ أَنَّ الْمَطْعُومَ عِلَّةٌ. وَالثَّانِي: إِبْطَالُ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ.
فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَطْعُومَ علة: فما رَوَى بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَاسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ بِمَا بَيَّناهُ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطَّعْمُ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَحَدِّ الزَّانِي لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزِّنَا وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرِقَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute