تَمْنَعُونَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا مَعَ مَا رُوِيَ فِيهَا.
قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، فَإِنْ صَحَّ وَثَبَتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلْدَاتٍ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ، أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافُهُ فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول كثير من أصحابه: أنه لا يجوز الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ صَحَّ لِجَوَازِ أَنْ يَرِدَ فِي ذَنْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، فلا يجب حمله في عُمُومِ الذُّنُوبِ وَلَا عَلَى عُمُومِ النَّاسِ.
(فَصْلٌ)
لا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنِ الْحُدُودِ إِذَا وَجَبَتْ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ إِلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنْ جَازَ الْعَفْوُ عَنِ التَّعْزِيرِ وَجَازَتِ الشَّفَاعَةُ فِيهِ.
رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَافَوْا عَنِ الْحُدُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي من حد فقد وجب) .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لعن الله الشافع والمشفع) .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جلد رجلاً في شراب فقال شعراً.
(أَلَا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي ... بِحَقٍّ مَا سرقت ولا زنيت)
(شربت شربة لَا عِرْضَ أَبْقَتْ ... وَلَا مَا لَذَّةٌ فِيهَا قَضَيْتُ)
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَوْ بَلَغَنِي قَبْلَ أَنْ أَجْلِدَهُ لَمْ أَجْلِدْهُ) فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ.
قِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ ما كان متصلاً ثابتاً، وَلَوْ ثَبَتَ وَصَحَّ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِشِعْرِهِ على تقدم توبته.
وإما أن حَدَّ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، وَكَانَ تَعْزِيرًا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ.