[مسألة]
: قال الشافعي رضي الله عنه: " نَحَرَ هَدْيًا لِإِحْصَارِهِ حَيْثُ أُحْصِرَ فِي حِلٍّ أو حرمٍ ".
قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ: عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ دَمٌ لِأَجْلِ إِحْلَالِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مَنْ نُسُكِهِ بِسَبَبٍ لَمْ يَنْتَسِبْ فِيهِ إِلَى التَّفْرِيطِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ إِتْمَامِ الْحَجِّ؛ رِفْقًا بِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ تُغْلِظَ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الدَّمِ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: ١٩٦) فَذَكَرَ السَّبَبَ وَحُكْمَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أُحْصِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِالْإِحْصَارِ عَلَى سَبْعَةٍ؛ لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْبَدَنَةُ مَنْحُورَةً عَنْ سَبْعَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مَنْ نُسُكِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ كَالْفَائِتِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ قَدْ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَهَذَا الْمُحْصَرُ قَدْ أَحَلَّ قَبْلَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَلَزِمَهُ دَمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ تَخْفِيفٌ، وَإِيجَابَ الدَّمِ تَغْلِيطٌ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ كَمَا يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّغْلِيطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَتِّعُ مَحِلَّ تَخْفِيفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ هَدْيًا، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ فِيهِ الْهَدْيَ، فَنَقُولُ: لَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُحْصَرًا في حل أو في حرم، فإن كان مُحْصَرًا فِي حَرَمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَ إِحْصَارِهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ نَحَرَهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا فِي الْحِلِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَ، فِي الْحِلِّ، وَكَانَ عَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ مَنْ جَوَّزَ نَحْرَ هَدْيِهِ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُحْصَرُ فِي الْحِلِّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ، حَيْثُ أَحُصِرَ، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ}
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute