للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَصَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مَعَانِي الْعِلَّةِ وَمَنَعَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَيَانٌ وَبُرْهَانٌ.

فَأَمَّا إِنْ تَعَارَضَ التَّعْلِيقُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُسْتَنْبَطٌ كَانَ مَعْنَى النَّصِّ أَوْلَى مِنْ مَعْنَى الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.

وذلك مثل تعليل مال الفيء تعالى: {كيلا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: ٧] وَتَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: ٩١] الْآيَةَ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثٍ: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الدَّافَّةِ " وَكَمَا عَلَّلَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ بِأَنْ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ: " أَيَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ " قِيلَ: نَعَمْ قَالَ: فَلَا إِذَنْ.

فَهَذَا التَّعْلِيلُ كُلُّهُ عَنْ نُصُوصٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ بِعِلَلٍ مُسْتَنْبَطَةٍ.

(فَصْلٌ: تَعْرِيفُ القياس)

:

فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الْقِيَاسِ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَالْقِيَاسُ مَوْضُوعٌ لِطَلَبِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنَ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا؛ لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ؛ حَتَّى يُشْرِكَهُ فِي حُكْمِهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْعِلَّةِ فَصَارَ الْقِيَاسُ إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ.

وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ اسْمُ الْقِيَاسِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا قِيَاسُ هَذَا أَيْ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحُكْمِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْإِصَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قِسْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَصَبْتُهُ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُصِيبُ بِهِ الْحُكْمَ.

(حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ)

:

وَالْقِيَاسُ: أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَحُجَّةٌ تُسْتَخْرَجُ بِهَا أَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالنُّصُوصُ فِي الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعَانِيهَا إِذَا عَقِلَتْ وَبِالْأَسْمَاءِ إِذَا جَهِلَتْ، وَيَكُونُ اخْتِلَافُهَا عَلَى حَسَبِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بِهَا.

وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ فَأَثْبَتَهُ أَكْثَرُهُمْ دَلِيلًا، وَأَثْبَتَهُ شَاذٌّ مِنْهُمْ دَلِيلًا بِالْعَقْلِ.

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>