اللَّهُ الْخَمْرَ فَوَجَبَ أَنْ يُغْنِيَ عَنْهَا بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهَا. وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُغْنِي عَنْهَا سِوَى النَّبِيذِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا اعتباراً بِسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: قَدْ وَعَدَنَا بِالْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ وَرَغَّبَ فِيهَا أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَمَا لَا تُعْرَفُ لَذَّتُهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ التَّرْغِيبُ فِيهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَبِيحُوا مَا تستدل بِهِ عَلَى لَذَّتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ النبيذ، فاقتضى أن يحل له النَّبِيذُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ التَّرْغِيبَاتِ، فَهَذِهِ دَلَائِلُ مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ مِنْ نُصُوصٍ وَمَعَانٍ.
(فَصْلٌ)
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ؛ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ كَوُجُودِهِ فِي الْخَمْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحْرِيمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كل مسكر خمر وكل خمر حَرَامٌ) . فَدَلَّ عَلَى تَسْمِيَةِ النَّبِيذِ خَمْرًا، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ كَالْخَمْرِ.
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " كل خمر حرام وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) .
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَا تَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ) " وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ) " ومن مس ذكره فليتوضأ) ففيه ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَثْبَتُ وَأَعْلَمُ بِطَرِيقِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ مِنْ يَحْيَى، وَقَدْ أَثْبَتَ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِنْكَارُ هَذَا الْحَدِيثِ إِذَا رَوَاهُ الثِّقَةُ، حَتَّى يُبَيِّنَ وجه فساده، وقد رواه من ذكرنا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَخْذَ بِهِ وَالْعَمَلَ عَلَيْهِ قَدْ سبق يحيى، فلم يكن حدوث قدحه مؤشراً. فَإِنْ قِيلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يعلمنا الأسماء، وإنما يعلمنا الأحكام، لأنه أَهْلَ اللُّغَةِ قَدْ شَارَكُوهُ فِي مَعْرِفَتِهَا لِتَقَدُّمِ اللسان العربي على مجيء الشرع. ففيه جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْهُ الأسماء شرعاً، إذا تعلقت عليها أحكام كما تؤخذ الأَحْكَام؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءَ فَنَقَلَهَا الشَّرْعُ إِلَى أَفْعَالِهَا، وَكَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute