فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرْضَعْتُكُمَا فَجِئْتُ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَلْتُ: إِنَّ السَّوْدَاءَ قَالَتْ كَذَا، وَهِيَ كَاذِبَةٌ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا ".
قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بشادتها فِي الْإِمْضَاءِ، وَلَا فِي الرَّدِّ وَأَجْرَاهُ فَجَرَى الْخَبَرُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَمْ يَقْطَعْ بِأَحَدِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دَعْهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا " طَرِيقُهُ طَرِيقُ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِالْتِزَامِ وَالْإِيجَابِ لِقَوْلِهِ " لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا " وَلَوْ حَرُمَتْ لَأَخْبَرَهُ بِتَحْرِيمِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّوْدَاءَ الَّتِي شَهِدَتْ كَانَتْ أَمَةً وَشَهَادَةُ الْأَمَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَلَى سِيَاقِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَكَحَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ فَقَالَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، قَالَ: فَجَاءَتْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، قَالَ: فَجِئْتُ فذكرته ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتِ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا "، قَالَ: فَنَهَى عَنْهَا.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرحمن السلماني عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ فَقَالَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ.
قِيلَ: هَذَا رَوَاهُ حَرَامٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عُمَارَةُ بْنُ حَرَمِيٍّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الشافعي حديث حرام قبوله حرام وابن السلماني ضَعِيفٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ الرِّجَالُ إِذَا انْفَرَدُوا وَيَشْهَدَ بِهِ النِّسَاءُ إِذَا انْفَرَدْنَ وَاللَّهُ أعلم.
[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُنْكِرُ الرَّضَاعَ فَكَانَتْ فِيهِنَّ أُمُّهَا أَوِ ابْنَتُهَا جُزْنَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ تَدَّعِي الرَّضَاعَ لَمْ يَجُزْ فِيهَا أُمُّهَا وَلَا أُمَّهَاتُهَا وَلَا ابْنَتُهَا وَلَا بَنَاتُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّعِي الرَّضَاعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، فَإِنْ كَانَ مُدَّعِيهِ الزَّوْجَ فَقَدِ انفسخ نكاح بِدَعْوَاهُ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِيَدِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأُحِبُّ أن يطلق واحدة ليستبيح الأزواج بيقين ".
وإنما قيل قَوْلُهُ فِي الْفُرْقَةِ " بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ "، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْمَهْرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ