للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُهُ وَيَصِحُّ فِيهِ ظِهَارُهُ، وَلَا يُلَاعِنُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا فِي مَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ نَسَبٍ يَلْحَقُهُ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يرمون أزواجهم} وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَتَهُ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ وَلِأَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ اللِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَغَيْرِ ذَاتِ الْوَلَدِ.

وَدَلِيلُنَا قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} ، وَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُنَّ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فِرَاشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ نَسَبِهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، فَجَازَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ كَالزَّوْجَةِ، وَخَالَفَتِ الْأَمَةُ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ، وَلِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ، وَلُحُوقُهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَضْعَفُ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ بِاللِّعَانِ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ كَانَ أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ بِاللِّعَانِ شَيْئَانِ، رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ النَّسَبِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَفْعِ الْفِرَاشِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْيِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ مَا قَدَرَ عَلَى رَفْعِ شَيْئَيْنِ قَدَرَ عَلَى رَفْعِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَحْكَامِهَا فِي الصِّحَّةِ، فَلَمَّا جَازَ نَفْيُ النَّسَبِ فِي صَحِيحِ الْمَنَاكِحِ كَانَ نَفْيُهُ فِي فَاسِدِهَا أولى. فأما الجواب عن الآية فهو اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْهَا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِأَنَّهُ قُذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فهو أن فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا. فَلِذَلِكَ خَالَفَ فِيهِ الْأَجْنَبِيَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَسَبٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا فِي صَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ، وَاللِّعَانَ يُمْلَكُ بِحُدُوثِ الزِّنَا، فَجَازَ أَنْ يُمْلَكَ بِهِ فِي صَحِيحِ الْعَقْدِ وَفَاسِدِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْفُرْقَةِ، وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَاللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَنَفْيِ لِحَوْقِ النَّسَبِ، فَصَحَّ فِيهِ اللِّعَانُ لِبَقَاءِ سَبَبِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعْنَاهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ وَلَدِ النَّسَبِ لِزَوَالِ أَسْبَابِهِ كُلِّهَا.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ، تَعَلَّقَ بِالْتِعَانِهِ فِيهِمَا مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ الأربعة حكمان:

<<  <  ج: ص:  >  >>