للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَابِلٍ، فَقَدْ أَرْسَلَ الشَّافِعِيُّ جَوَابَهُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمَيْلَ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْجَوَابِ هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ فِي مِلْكِهِ وَمَيْلُهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَالَ فَسَقَطَ لِوَقْتِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ مَائِلًا ثُمَّ سَقَطَ.

وَالثَّانِي: أَنَّ طَيَرَانَ الشَّرَرِ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ أَحْظَرُ وَضَرَرَهُ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَجَّجَ فِي دَارِهِ نَارًا طَارَ شَرَرُهَا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهَا لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ، فَوَجَبَ إِذَا بَنَى حَائِطًا فَمَالَ أَنْ لَا يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ، وَسُقُوطُ الضَّمَانِ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ مَيْلِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ شَرَرِ النَّارِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ مَحْمُولٌ عَلَى مَيْلِهِ إِلَى مِلْكِهِ، فَأَمَّا مَيْلُهُ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ فَمُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِإِطْلَاقِ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِهِ الضَّمَانُ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِزَالَةِ مَيْلِهِ إِذَا مَالَ بِنَفْسِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِإِزَالَتِهِ إِذَا بَنَاهُ مَائِلًا، فَصَارَ بِتَرْكِهِ عَلَى مَيْلِهِ مُفَرِّطًا وَبِبِنَائِهِ مَائِلًا مُتَعَدِّيًا، وَهُوَ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ كَمَا يَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي لُزُومِ الضَّمَانِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا مِنْ دَارِهِ أَقَرَّ عَلَيْهِ وَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ وَهُوَ لَا يُقِرُّ عَلَى مَيْلِ الْحَائِطِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا إِنْكَارُ الْوَالِي وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ لَمْ يَجِبْ بِإِنْكَارِ الْوَالِي وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَمْ يَسْقُطْ إِمْسَاكُ الْوَالِي وَتُرِكَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَنْكَرَهُ الْوَالِي أَوْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى الطَّرِيقِ أَوِ الْجَارِ وَإِنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى دَارِهِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يُنْكِرَاهُ وَلَمْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ فَصَارَ مُخَالِفًا كِلَا الْوَجْهَيْنِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ بِتَرْكِهِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْمُطَالَبَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ، وَهُوَ قَبْلَ الْإِنْذَارِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لعدم التعدي.

<<  <  ج: ص:  >  >>