وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ طِلَاءِ السُّفُنِ وَجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الاستصباح بد اسْتِهْلَاكًا لَهُ فَجَازَ وَفِي طِلَاءِ السُّفُنِ بِهِ اسْتِبْقَاءٌ لَهُ، فَلَمْ يَجُزْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِصْبَاحَ لَا يَمَسُّهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ بِالنَّجَاسَةِ فَيَتَوَقَّاهَا، وَالسَّفِينَةُ يَمَسُّهَا فِي الْغَالِبِ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِالنَّجَاسَةِ، فَلَا يَتَوَقَّاهَا.
فَعَلَى هَذَا إِنْ جُعِلَ طِلَاءً لِلْبَهَائِمِ، فَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمِلَةً لَمْ يَجُزْ كَالسَّفِينَةِ لِوُجُودِ الْعِلَّتَيْنِ مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَمَسِيسِ حَقٍّ لَا يُعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً غَيْرَ مُسْتَعْمَلَةٍ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَمَسُّهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَعْلِيلًا بِبَقَاءِ عَيْنِهَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُرْسَلُ عَنْ أَمْرٍ بِهِ أَوْ نَهْىٍ عَنْهُ، فَيُنْظَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ أُبِيحَ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ حُظِرَ.
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعَمَ الْبَازِي وَالْفَهْدُ لَحْمَ الْمَيْتَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فِيهِ، بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقِيَهُمَا الْمَاءَ النَّجِسَ، وَالْأَبْوَالَ.
فَأَمَّا طَرْحُ الْأَنْجَاسِ مِنَ الْبَعْرِ وَالسِّرْجِينِ عَلَى الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ، فَإِنْ لَمْ يُمَاسَّ الثَّمَرَةَ الْمَأْكُولَةَ، وَكَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي أُصُولِ الشَّجَرِ وَفِي قُضْبَانِ الزَّرْعِ جَازَ؛ لِاشْتِهَارِ حَالِهَا وَأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا عَالَمٌ بِهَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا مِنْ ثِمَارِهَا فَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً جَازَ، لِأَنَّ الْيَابِسَ لَا نجس يَابِسًا. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَطْبًا أَوْ نَدِيًّا، بنجس بِالْمُلَاقَاةِ، فَإِبَاحَةُ اسْتِعْمَالِهِ مَقْرُونًا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا بِغَسْلِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ، أَوْ بِإِعْلَامِ مُشْتَرِيهِ بِنَجَاسَتِهِ، وَهَكَذَا إِذَا عُجِنَ طِينُ الْكِيزَانِ وَالْخَزَفُ بِالسَّرْجِينِ لَزِمَهُ عِنْدَ بَيْعِهِ أَنْ يَغْسِلَهُ أَوْ يُخْبِرَ بِنَجَاسَتِهِ، ليَغْسِلُهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ صَارَ هَذَا عُرْفًا مَشْهُورًا بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ سَقَطَ الْأَمْرَانِ عِنْدَ بَيْعِهِ مِنَ الْغَسْلِ وَالْإِعْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعُرْفِ مَعْلُومَ النَّجَاسَةِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: " وَلَا يَحِلُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا إِهَابُهَا بِالدِّبَاغِ وَيُبَاعُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ صَارَ جَمِيعُهُ بِالْمَوْتِ نَجِسًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْجُسُ لَحْمُهُ وَجِلْدُهُ، وَلَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَلَا عَظْمُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَنْجُسُ عَظْمُهُ، وَلَا يَنْجُسُ شَعْرُهُ، وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ.