قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَادَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ مَوْضِعٌ مَسْتُورٌ لِيَخْفَى عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ فَلَا يُشَاهِدُوهُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُخْتَارُ غُسْلُهُ تَحْتَ سَقْفٍ أَوْ سَمَاءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحْتَ سَقْفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ وَأَحْرَى، وَقَالَ آخَرُونَ: تَحْتَ السَّمَاءِ لِتَنْزِلَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتَعَانَ بِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ لَا يَرَى الْمَيِّتَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا الدُّنُوُّ مِنْهُ دَنَا وَغَضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ، فَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، عَارِفًا بِغُسْلِهِ وَنَظَافَتِهِ، غَاضًّا طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ، لِكَيْمَا يُشَاهِدَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ سَاتِرًا عليه.
[مسألة]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَّخِذُ إِنَاءَيْنِ: إِنَاءً يَغْرِفُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ فَيَصُبُّ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ، فَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إِلَى الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِيهِ لَمْ يُصِبِ الْآخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُخْتَارُ اتِّخَاذُ إِنَاءَيْنِ كَبِيرٌ بِالْبُعْدِ، وَصَغِيرٌ بِالْقُرْبِ، وَإِنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْكَبِيرِ وَيَصُبُّهُ فِي الصَّغِيرِ، حَتَّى لَا يَفْسُدَ الْمَاءُ بِمَا يَتَطَايَرُ مِنْ غُسْلِهِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ إِمَّا بِكَثْرَةِ مَا يَتَطَايَرُ مِمَّا يَنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِمَّا لِنَجَاسَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ تُنَجِّسُ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بَلْ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، فَذَهَبَا إِلَى تَنْجِيسِهِ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَلِأَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ جُمْلَتُهُ بَعْدَ الْوَفَاةِ.
وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِلَى طَهَارَةِ الْمَيِّتِ كَطَهَارَةِ الْحَيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: ٧٠) فَلَمَّا طُهِّرُوا أَحْيَاءً لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُخَصُّوا بِهَا أَمْوَاتًا لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ " وَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا قَبَّلَهُ مَعَ رُطُوبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا تَعَبَّدْنَا بِغَسْلِهِ، لَأَنَّ غَسْلَ مَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ يَزِيدُ تَنْجِيسًا وَلَا يُفِيدُهُ الْغُسْلُ تَطْهِيرًا، فَأَمَّا مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَقَدْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهِ أَيْضًا،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute