قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْحَرْبُ يَوْمَئِذٍ قَائِمَةٌ، وَمُعَاوِيَةُ يُقَاتِلُ جَادًّا فِي أَيَّامِهِ كُلِّهَا مُسْتَعْلِيًا أَوْ مُنْتَصِفًا.
يَعْنِي: مُسْتَعْلِيًا بِكَثْرَةِ جَيْشِهِ، أَوْ مُنْتَصِفًا بِمُسَاوَاةِ الْجَيْشِ.
وَأُتِيَ مُعَاوِيَةُ بِأَسِيرٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْأَسِيرُ: وَاللَّهِ مَا تَقْتُلُنِي لِلَّهِ وَلَا فِيهِ وَلَكِنْ لِحُطَامِ هَذِهِ الدُّنْيَا، فَإِنْ عَفَوْتَ فَصَنَعَ اللَّهُ بِكَ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَصَنَعَ اللَّهُ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَقَدْ سَبَبْتَ فَأَحْسَنْتَ وخلى سبيل.
وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ لَا بِالْقَتْلِ، وَالْمُوَلِّي غَيْرُ مُقَاتِلٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلَ.
وَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِتَالِ الْكَفُّ وَالْمُوَلِّي كَافٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتْبَعَ.
فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِنِدَائِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ دُونَ صِفِّينَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ فِي الْيَوْمَيْنِ مَعًا أَنْ لَا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحٍ.
وَالثَّانِي: إِنّهُ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ فِي النِّدَاءِ فَلِأَنَّ الْحَرْبَ انْجَلَتْ يَوْمَ الْجَمَلِ فَتَفَرَّغَ لِلنِّدَاءِ، وَكَانَتْ يَوْمَ صِفِّينَ بَاقِيَةً فَتَشَاغَلَ بِتَدْبِيرِ الْحَرْبِ عَنِ النِّدَاءِ.
وَأَمَّا طَلَبُهُ لِلْأَسِيرِ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الصُّفُوفِ وَبَقَاءِ الْقِتَالِ.
وَاحْتِجَاجُهُمْ بِجَوَازِ عَوْدِهِ فَلَا مَعْنًى لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ لَمْ تَكُنْ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[(مسألة)]
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَتَجَنَّبُوا الْجَمَاعَاتِ وَأَكْفَرُوهُمْ لم يحل بذلك قتالهم بلغنا أن علياً رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لا حكم إلا لله في ناحية المسجد فقال علي رضي الله عنه كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دامت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخَوَارِجُ، فَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَذْهَبٍ ابْتَدَعُوهُ وَرَأْيٍ اعْتَقَدُوهُ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ إِحْدَى الْكَبَائِرِ كَفَرَ وَحَبِطَ عَمَلُهُ، وَاسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ صَارَتْ بِظُهُورِ الْكَبَائِرِ فِيهَا دَارَ كُفْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَأَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَجَرَى عَلَى حُكْمِهِمْ فَكَذَلِكَ.
فَاعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ وَأَكْفَرُوهُمْ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَسُمُّوا شُرَاةً، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ على وجهين: