للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ هَذَا فَاسِدًا كَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَكْسِ أَفْسَدَ، وَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا قررناه من اجتماع الأمين الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ فِي الْقِيَاسِ، فَلَا يَحْنَثُ بِالزُّبْدِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الزُّبْدَ، لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ.

وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثْ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ.

وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْجُبْنَ وَالْمَصْلَ لَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّهُ يَحْنَثُ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّبَنَ، لِأَنَّهُمَا مِنَ اللَّبَنِ، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْجُبْنَ وَالْمَصْلَ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَكُونُ مِنْهُمَا.

وَلَوْ كَانَ لِقَوْلِهِ هَذَا وَجْهٌ، لَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِالتَّمْرِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا، لِأَنَّهُ مِنْ رُطَبٍ وَلَا يَحْنَثُ بِالرُّطَبِ إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ التَّمْرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التَّمْرِ، وَلَا أَحْسَبُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ هَذَا، وَإِنْ كَانَ تَعْلِيلُهُ يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خلاقه.

(فَصْلٌ:)

وَسَأُوَضِّحُ فِي الْأَيْمَانِ أَصْلًا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أحكامها، لِيَسْلَمَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ، فَأَقُولُ: إِنَّ كُلَّ يَمِينٍ انْعَقَدَتْ عَلَى اسْمٍ يُعْتَبَرُ بِهِ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ أَمْرَيْنِ مُجْمَلٍ وَمُفَسَّرٍ.

فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مُجْمَلًا كَقَوْلِهِ فِي الْإِثْبَاتِ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا، وَفِي النَّفْيِ: وَاللَّهِ لَا فَعَلْتُ شَيْئًا، فَاسْمُ الشَّيْءِ يَعُمُّ كُلَّ مُسَمًّى، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ لِخُرُوجِهَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعُرْفِ، وَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضِهَا، وَلَا يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا إِلَّا بِالْبَيَانِ، فوجب أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِهِ، وَلَهُ حَالَتَانِ.

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَقْتَ يَمِينِهِ، فَيُحْمَلُ إِجْمَالُ يَمِينِهِ عَلَى نِيَّتِهِ، فَيَصِيرُ بِالنِّيَّةِ مُفَسَّرًا، وَبِالْقَوْلِ مُخْبَرًا، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا فَعَلْتُ شَيْئًا أَيْ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، وَبِقَوْلِهِ: لَأَفْعَلَنَّ شَيْئًا أَيْ: لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ، فَتَعَلَّقَ بِرُّهُ وَحِنْثُهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَى بَيَانِهِ أَوْ تَأَخَّرَ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ.

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَقْتَ يَمِينِهِ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ فِيمَنْ شَاءَ وَيَعْمَلُ فِيهَا عَلَى خِيَارِهِ، كَمَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدَةً، كَانَ لَهُ تَعْيِينُ الطَّلَاقِ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ عَلَى خِيَارِهِ، فَالْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتَاقٍ، فَيُؤْخَذُ حَتْمًا بِتَعْيِينِ يَمِينِهِ، فِيمَا يَخْتَارُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِهَا.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ بِاللَّهِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ، وَتَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِرَادَتِهِ فِي التَّعْيِينِ مَتَى شَاءَ، وَلَا حِنْثَ فيها قبل التعينين.

<<  <  ج: ص:  >  >>