وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدْعُوَ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ إِلَى إِنْظَارِهِ، وَيَدْعُوَ السَّيِّدُ إِلَى تَعْجِيزِهِ، فَتَعْجِيزُ السَّيِّدِ أَحَقُّ مِنْ إِنْظَارِ صَاحِبِ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا عَجَّزَهُ السَّيِّدُ وَفِي يَدِهِ مَالٌ كَانَ أَرْبَابُ الدُّيُونِ أَحَقَّ بِذَلِكَ الْمَالِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ عَبْدًا، وَمَا بِيَدِ الْعَبْدِ مِنْ مَالٍ فَصَرَفَهُ فِي دُيُونِ مُعَامَلَاتِهِ أَحَقُّ مِنْ سَيِّدِهِ، وَمِنْ جِنَايَاتِهِ، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنْ دُيُونِهِمْ بَقَايَا كَانَتْ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا، وَإِنْ فَضَلَ بَعْدَ الدُّيُونِ فَضْلٌ كَانَ صَرْفُهُ فِي مُسْتَحِقِّ الْجِنَايَةِ أَحَقَّ مِنَ السَّيِّدِ، وَبِيعَ فِي بَاقِي جِنَايَتِهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا.
فَصْلٌ
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ تَعْجِيزِهِ مَاتَ عَبْدًا، وَصَارَتْ جِنَايَتُهُ هَدَرًا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَاتَ وَكَانَ مَا بِيَدِهِ مَصْرُوفًا في ديونه، فإذا فَضَلَ بَعْدَ الدُّيُونِ فَضْلٌ كَانَ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ بقي من الديون بقية كانت في ذمته مَيِّتٍ لَا يُؤْخَذُ بِهَا حَيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[مسألة]
قال الشافعي رضي الله عنه: (وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَاتُ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مَعًا وَبَعْضُهَا قَبْلَ التَّعْجِيزِ وَبَعْدَهُ يَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ مَعًا وَإِنْ أَبْرَأَهُ بَعْضُهُمْ كَانَ ثَمَنُهُ لِلْبَاقِينَ مِنْهُمْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَجَّزَ إِلَّا بِمَالِ الْكِتَابَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا عُجِّزَ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، فَأَمَّا بَيْعُهُ فِي أُرُوشِ جِنَايَاتِهِ فَمُسْتَحِقٌّ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ مِنْهَا، فَإِنْ فَدَاهُ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهِ، وَفِيمَا يَفْدِيهِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أُرُوشِ جِنَايَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَفْدِيهِ بِأُرُوشِ جِنَايَاتِهِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْدِهِ بِيعَ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَكَانَ ثَمَنُهُ مَصْرُوفًا فِي أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً يَشْتَرِكُ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَتْ جِنَايَتُهُ وَتَأَخَّرَتْ، فَلَوْ جَنَى قَبْلَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ جَنَى فِي حَالِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ جَنَى بَعْدَ التَّعْجِيزِ اشْتَرَكَ أَرْبَابُ الْجِنَايَاتِ الثَّلَاثِ فِي ثَمَنِهِ، لِتَعَلُّقِ جَمِيعِهَا بِرَقَبَتِهِ يَتَحَاصُّونَ فِيهِ بِقَدْرِ أُرُوشِهِمْ، فَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ مِنْ أَرْشِهِ رَجَعَ حَقُّهُ عَلَى الْبَاقِينَ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَى السَّيِّدِ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمْ لَاسْتَوْعَبَ بِالْجِنَايَةِ جَمِيعَ ثَمَنِهِ، وَجَرَى مَجْرَى أَهْلِ الْوَصَايَا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمْ وَعَفَا أَحَدُهُمْ تَوَفَّرَ سَهْمُهُ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْهُمْ، وَكَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ إِذَا أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute