فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حُكْمٍ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى ثَالِثٍ صَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ مَا عَدَا الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ.
مِثَالُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ انْقَرَضُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ مِنْهُمَا أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ فَخَالَفَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَجَعَلَ ابْنَ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ أَحَقَّ بِالْمِيرَاثِ فَخَالَفَهُمْ فِي الْقَوْلَيْنِ بِإِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ فَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى تَسْوِيغِ هَذَا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُوجِبٌ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِي انْقِرَاضِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ مَا خَرَجَ عَنِ الْقَوْلَيْنِ، وأن الحق في أحدهما، فلم يجر لِلتَّابِعِيِّ أَنْ يُبْطِلَ مَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ فَهَذَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ.
وَهُوَ مِنْ دَلَائِلِ السَّمْعِ.
وَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْكَدَ مِنْ سُنَنِ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَإِنْ نَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى كَذَا فَقَطَعَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ قُبِلَ مِنْهُ وَأُثْبِتَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاوِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
فَإِنْ قَالَ الرَّاوِي لَمْ أَعْرِفْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَا مِمَّنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ لَمْ يَثْبُتِ الْإِجْمَاعُ بِرِوَايَتِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِهِ بِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ بِهَا وَجَعَلَ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ إِثْبَاتًا لِلْإِجْمَاعِ وَامْتَنَعَ آخَرُونَ مِنْ إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ بِهَذَا النَّفْيِ وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ تَوْجِيهٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
[(فصل: [رابعا - القياس] )]
فَأَمَّا الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَهُ مُقَدِّمَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الِاجْتِهَادُ.
وَالثَّانِيَةُ: الِاسْتِنْبَاطُ.
(الاجتهاد)
فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ: فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْهَادِ النَّفْسِ وَكَدِّهَا فِي طَلَبِ الْمُرَادِ بِهِ. كَمَا أَنَّ جِهَادَ الْعَدُوِّ مِنْ إِجْهَادِ النَّفْسِ فِي قَهْرِ الْعَدُوِّ، وَالِاجْتِهَادُ هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عليه.