والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ نُكُولِهِ عَنِ الْأَيْمَانِ، فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُقْسِمُوا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَيْمَانِ قَدْ سَقَطَ بِنُكُولِهِ عَنْهَا، فَصَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهَا فِي حُقُوقِ وَرَثَتِهِ.
وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُمْ مِنَ الْقَسَامَةِ كَانَ لَهُمْ إِحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعِي عَنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ يُوجِبُ نَقْلَهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، فَوَجَبَ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْهُ بِمَوْتِهِ إِلَى وَرَثَتِهِ وَإِنْ سَقَطَتْ حُقُوقُهُمْ مِنْ أَيْمَانِ قسامته.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْأَيْمَانِ مِنْ غَيْرِ نُكُولٍ عَنْهَا، فَيَنْتَقِلُ الْحَقُّ فِيهَا إِلَى وَرَثَتِهِ، لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَاتَ وَحِصَّتُهُ مِنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَمِينًا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنِ اثْنَيْنِ، وَقَدْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ أَيْمَانُهُ بَيْنَهُمَا، فَيُقْسِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَمِينًا، بَعْدَ جَبْرِ كَسْرِهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، إِنْ مَاتَ وَارِثُ الْمَقْتُولِ وترك وارثاً.
[(مسألة)]
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يُتِمَّ الْقَسَامَةَ حَتَّى مَاتَ ابْتَدَأَ وَارِثُهُ الْقَسَامَةَ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ الْوَارِثُ بَعْضَ أَيْمَانِ قَسَامَتِهِ فَلَمْ يُكْمِلْهَا حَتَّى مَاتَ؟ لَمْ يَجُزْ لِوَارِثِهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، وَاسْتَأْنَفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَيْمَانِ تَأْثِيرٌ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهَا وَإِنْ قَلَّ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ حَتَّى يُسْتَوْفَى فَلَوْ بَنَى الْوَارِثُ عَلَيْهَا، لَصَارَ الْمَوْرُوثُ نَائِبًا فِيهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا نِيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ، وَلَكِنْ لَوْ أَقَامَ الْوَارِثُ قَبْلَ مَوْتِهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ شَاهِدًا وَاحِدًا جاز لوارثه أن يبني على بينته، فيقم شَاهِدًا آخَرَ، وَتَكْمُلَ الْبَيِّنَةُ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الفرق بين الأيمان والبينة.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ ثُمَّ أَفَاقَ بَنَى لِأَنَّهُ حَلَفَ لِجَمِيعِهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَوْلَى فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ أَنْ تُوَالَى وَلَا تُفَرَّقَ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَهِيَ فِي الْمُوَالَاةِ أَغْلَظُ وَأَزْجَرُ، فَإِنْ فُرِّقَتْ كُرِهَ تَفْرِيقُهَا، وَأَجْزَأَتْ سَوَاءٌ طَالَ التَّفْرِيقُ أَوْ قَصُرَ، وَسَوَاءٌ قَلَّ التَّفْرِيقُ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ حَالِفًا بِجَمِيعِهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي تَضَاعِيفِ أَيْمَانِهِ أَمْسَكَ عَنِ الْأَيْمَانِ فِي زمان جنونه وإغمائه، لأن لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِيَمِينِهِ حُكْمٌ، فَإِذَا أَفَاقَ مِنْ جُنُونِهِ أَوْ إِغْمَائِهِ بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَيْمَانِهِ قَبْلَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تَفْرِقَةَ الْأَيْمَانِ لَا تَمْنَعُ مِنْ إِجْزَائِهَا وَلَا يَبْطُلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا لِحُدُوثِ الْجُنُونِ وَإِنْ بَطَلَتْ بِهِ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ مِنَ الشَّرَكِ، وَالْوَكَالَاتِ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فَسْخٌ وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعُقُودِ فَسْخٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute