أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا فِي مَنَعَةٍ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، لَا يُمْكِنُ تَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ إِلَّا بِقِتَالِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا آحَادًا لَا يَمْتَنِعُونَ اسْتُوفِيَتْ مِنْهُمُ الْحُقُوقُ وَلَمْ يُقَاتَلُوا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُتَأَوِّلًا، فَأُقِيدَ بِهِ.
يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا انْفَرَدَ وَلَمْ يَمْتَنِعْ بِعَدَدٍ لَمْ يُؤَثِّرْ تَأْوِيلُهُ فِي أَخْذِ الْقَوَدِ مِنْهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَعْتَزِلُوا عَنْ دَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِدَارٍ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا وَيَتَمَيَّزُونَ بِهَا كَأَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ:
فَإِنْ كَانُوا عَلَى اختلاطهم بِأَهْلِ الْعَدْلِ، وَلَمْ يَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ: لَمْ يُقَاتَلُوا.
رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْطُبُ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ - تَعْرِيضًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ مِنْ تَحْكِيمِهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِفُوهُ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ كَالَّذِي تَأَوَّلَهُ أَهْلُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِذَا بَايَنُوا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْحِرَابَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: فَهُوَ نَصْبُ إِمَامٍ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيَنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ: إِنَّهُ شَرْطٌ يُسْتَحَقُّ بِهِ قِتَالُهُمْ، لِيَسْتَقِرَّ بِهِ تَمَيُّزُهُمْ وَمُبَايِنَتُهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قِتَالِهِمْ.
لِأَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ، وَقَاتَلَ أَهْلَ صِفِّينَ قَبْلَ أَنْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا لَهُمْ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَكَامَلَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي قِتَالِهِمْ، لَمْ يَبْدَأْ بِهِ الْإِمَامُ حَتَّى يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ انْفِرَادِهِمْ وَمُبَايَنَتِهِمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا وَنَاظَرَهُمْ عَلَيْهَا، حَتَّى يَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فِيهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ أَوَّلًا وَبِالْقِتَالِ أَخِيرًا.
وَلِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنَفَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى الْخَوَارِجِ بَالنَّهْرَوَانِ،