فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمْ تَرْكَهَا إِذَا قَصَرَ
قُلْنَا: نَحْنُ عَلَى مَا جَوَّزْنَا لَهُ تَرْكَ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ حَضَرٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَبَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ سَفَرٍ رَكْعَتَيْنِ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَجْزَاهُ عَنِ الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبَيْنِ
أَحَدُهُمَا: الْقَصْرُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِأَكْثَرِ أَفْعَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَكْثَرُ أَفْعَالِهِ الْقَصْرُ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْخِلَافِ خَارِجًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. إِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْقَصْرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَالرَّاغِبُ عَنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
رَاغِبٌ بِتَأْوِيلٍ وَهَذَا غَيْرُ كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ كَمَنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْأَحَادِ وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ وَرَغِبَ عَنْهَا زَاهِدًا فِيهَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ بِعِلْمِ وُرُودِ السَّنَّةِ بِالْقَصْرِ وَلَا يَقُولُ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لِي فَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ لَا يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً وبالاستظهار آخذاً
[(مسألة)]
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَلَا يُقْصَرَانِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَوَاتِ الرُّبَاعِيَّاتِ وَهِيَ ثَلَاثٌ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا يُقْصَرَانِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى إِلَيَّ كُلَّ صلاةٍ مِثْلَهَا إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وترٌ وَالصُّبْحَ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا وَكَانَ إِذَا سَافَرَ رَدَّهَا إِلَى أَصْلِهَا
وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَنْصِيفُ الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانُ بِشَطْرِهَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَضَعْتُ عَنْ عِبَادِي شَطْرَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِمْ "