قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَمَنْ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَقْضِ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَهَا، فَأَمَّا إِنْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ مَعَهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْضِي اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَسْمَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يَقْرَعْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا أَقْرَعَ كَالْحَضَرِ.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَوْ سَقَطَ الْقَضَاءُ فِي الحالية لَمْ يَكُنْ لِلْقُرْعَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَ وُجُودُ الْقُرْعَةِ وَعَدَمُهَا فِي الْإِبَاحَةِ افْتَرَقَا فِي الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ خَصَّ إِحْدَى نِسَائِهِ بِمُدَّةٍ يَلْحَقُهُ فِيهَا التُّهْمَةُ فَوَجَبَ بِهِ الْقَضَاءُ كَالْمُقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنِ الْمُسَافِرِ لِمَا لَهُ مِنْ تَرْكِهِنَّ وَجْهٌ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ جَازَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنْهُ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ بِاثْنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْقَسْمُ لَهُمَا وَلَوْ سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ فَوُجُوبُهُ يَكُونُ بِمُخَالَطَتِهِ لِلْمُسَافِرَةِ وَحُلُولِهَا مَعَهُ فِي سَفَرِهِ حَيْثُ يَحُلُّ.
فَأَمَّا إِنِ اعْتَزَلَهَا فِي سَفَرِهِ وَأَفْرَدَهَا بِخَيْمَةٍ غَيْرِ خَيْمَتِهِ، وَفِي مسكن إذا دخل بلداً غير مسكنه فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ مِنْهَا فِي السَّفَرِ قَسْمًا يُقْضَى كَمَا لَا يَكُونُ قُرْبُهَا فِي الْحَضَرِ قَسْمًا مُؤَدًّى، فَلَوْ خَالَطَهَا شَهْرًا وَاعْتَزَلَهَا شَهْرًا قَضَى شَهْرَ مُخَالَطَتِهَا وَلَمْ يَقْضِ شَهْرَ اعْتِزَالِهَا فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَامِ وَالِاعْتِزَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ.
فَصْلٌ
وَلَوْ سَافَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ بِالْقُرْعَةِ إِلَى بَلَدٍ قَرِيبٍ ثُمَّ سَافَرَ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَوْ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ سَفَرِهِ شَهْرٌ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاحِدٌ قَدْ أَقْرَعَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ السَّفَرُ بِمُدَّةٍ وَمَسَافَةٍ لِأَنَّهُ عَوَارِضُ السَّفَرِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَى الَّتِي سَافَرَ بِهَا زَوْجَةً أُخْرَى فِي سَفَرِهِ خَصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَعَهَا غَيْرَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَهَا قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسَافِرَةِ وَلَا يَقْضِي الْبَاقِيَاتِ، إِنْ كَانَ سَفَرُهُ بِالْوَاحِدَةِ بِقُرْعَةٍ وَيَقْضِيهِنَّ إن سافر بها بغير قرعة.
[مسألة]
قال الشافعي: " وَلَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا بقرعةٍ ثُمَّ أَزْمَعَ الْمُقَامَ لنقلةٍ احْتُسِبَ عَلَيْهَا مُقَامُهُ بَعْدَ الْإِزْمَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ سَفَرَ حَاجَةٍ ثُمَّ صَارَ إِلَى بَلَدٍ فَنَوَى الْمُقَامَ فِيهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فِيهِ مُسْتَوْطِنًا لَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ مُقَامِهِ مَعَهَا بَعْدَ نِيَّتِهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهَا، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيطَانِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute