أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ وَمَا وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ أَوْكَدُ مِمَّا وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ أَوْكَدُ مِنَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الْإِرْثَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَالْبَيْعَ بِاخْتِيَارٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ، وَحَقَّ الرَّهْنِ ثَابِتٌ في الذمة.
إِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَجَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَوَدَ أَوِ الْمَالَ فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ لَا يَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَمْ يَزُلْ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَبْطُلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا بَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْجِنَايَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا بَطَلَ بِالْجِنَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الرَّهْنِ؟ قُلْنَا: اسْتِدَامَةُ الْعَقْدِ أَقْوَى مِنَ ابْتِدَائِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَقَدُّمُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ ابْتِدَاءِ الرَّهْنِ لِضَعْفِهِ وَلَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ مَانِعًا مِنَ اسْتِدَامَةِ الرَّهْنِ لِقُوَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ حَقَّانِ حَقٌّ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَحَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ فَقَدَّمَ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَحَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ وَمَا وَجَبَ بِلَا اخْتِيَارٍ أَوْكَدُ مِمَّا وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ أَوْكَدُ مِنَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ لِأَنَّ الْإِرْثَ بِلَا اخْتِيَارٍ وَالْبَيْعَ بِاخْتِيَارٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ وَحَقَّ الرَّهْنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ حَقِّ الْجِنَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّقَبَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ حَقِّ الرَّهْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ وَفِي تَقْدِيمِ حَقِّ الرَّهْنِ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ.
كَمَا أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي طَرَفِهِ وَالْقِصَاصُ فِي نَفْسِهِ يُقَدَّمُ الْقِصَاصَ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْقِصَاصِ فِي طَرَفِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءَ الْحَقَّيْنِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا قَوِيَ حَقُّ الْجِنَايَةِ فِي مَنْعِ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مُتَقَدِّمًا، قَوِيَ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى حَقِّ الرَّهْنِ إِذَا كَانَ حَقُّ الْجِنَايَةِ مُتَأَخِّرًا لِأَنَّ أقوى الحقين يقدم على أضعفها.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الرَّهْنِ فَإِنْ عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سقط حق الجناية وبقي حقه الرَّهْنِ، وَكَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بَعْدَ الْعَفْوِ كَمَا كَانَ رَهْنًا قَبْلَ الْجِنَايَةِ.