مَالِهِ وَتَفْرِقَتِهِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَأَنْكَرُوهُ، وَنَكَلُوا عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْوَصِيِّ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ، وَلَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْحَصِرُونَ.
وَفِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَجْهَانِ حَكَّاهُمَا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ أَيْضًا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا إِذَا ادَّعَى الْوَصِيُّ حَقًّا لِطِفْلٍ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، لَمْ يَحْلِفِ الْوَصِيُّ وَلَمْ يُحْكَمْ بِالنُّكُولِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَكَانَ رَدُّ الْيَمِينِ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِ الطِّفْلِ، لِأَنَّ لِرَدِّ الْيَمِينِ وَقْتًا مُنْتَظَرًا.
فَأَمَّا مَا أَوْجَبْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ بِنُكُولِ رَبِّ الْمَالِ، فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ سُقُوطِهَا عَنْهُ بَعْدَ ظُهُورِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَوَاضِعِهِ أنه حكم بالظاهر المتقدم دون النكول الطارىء وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
: كُلُّ حَقٍّ سُمِعَتِ الدَّعْوَى فِيهِ، وَجَازَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى مُنْكِرِهِ، وَرُدَّتِ الْيَمِينُ بِالنُّكُولِ عَنْهُ عَلَى مُدَّعِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا كَالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ طلاق أو عتق أو نسب. [هذا مذهب الشافعي] .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مَا لم يكن مالا، ولا المقصود منه المال.
وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالْفَيْئَةُ فِي الْإِيلَاءِ، وَدَعْوَى الرِّقِّ، وَالِاسْتِيلَادُ، وَالنَّسَبُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْقَذْفُ.
وَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَلَا تُرَدُّ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الْمُدَّعِي، فَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا، فَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا.
وَلَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقًا، فَأَنْكَرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ. وَأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ لِيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا يُحْكَمُ بِالنُّكُولِ فِيمَا لَا تَصِحُّ إِبَاحَتُهُ، فَسَقَطَتْ فِيهِ الْيَمِينُ، وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْبَذْلَ لَا يَصِحُّ فِيهَا، وَالنُّكُولُ بَذْلٌ، فَلَمْ يُحْكَمْ فِيهَا بِالنُّكُولِ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْيَمِينُ قِيَاسًا عَلَى حُدُودِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْلَفَ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَزِمَتِ الْإِجَابَةُ عَنْهَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ فِيهَا كَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا اسْتِحْقَاقُ الْيَمِينِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ حُقُوقِهِمْ.