للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْزِيرُ الْإِمَامِ لِمُسْتَحِقِّ التَّعْزِيرِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ تَلَفٌ كَانَ مَضْمُونًا. وَقَالَ أبو حنيفة التَّعْزِيرُ وَاجِبٌ لَا يَضْمَنُ مَا حَدَثَ عَنْهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَلَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَةُ مَا حَظَرَ مِنْهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. قَالَ وَلِأَنَّهُ انْتِهَاكُ عِرْضٍ مَحْظُورٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا الحدود وَدَلِيلُنَا عَفْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ كثيرٍ مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ وَلَمْ يَعْفُ عَنْ وَاجِبٍ مِنَ الْحُدُودِ وَقَالَ حِينَ سُئِلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدٍّ لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوْتُ فَمِمَّا عَفَا عَنْهُ مِنَ التَّعْزِيرِ أَنَّهُ أَتَى وَقَدْ حَظَرَ الْغُلُولَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (التوبة: ٥٨) . وَتَنَازَعَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ شِرْبًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ فَنَسَبَهُ إِلَى الْمَيْلِ وَالتَّحَيُّفِ فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: ٦٥) ، فَفَارَقَ بِعَفْوِهِ عَنِ التَّعْزِيرِ مَا حَظَرَهُ مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حِمَى جَنْبِهِ مِنْ وُجُوبِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَاطِلٌ يضرب الزَّوْجِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَجَبَ.

فَصْلٌ

: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْزِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَحَدَثَ عَنْهُ التَّلَفُ فَالْإِمَامُ ضَامِنٌ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لَا ضَمَانَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ زَوَاجِرَ الْإِمَامِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ كَالْحُدُودِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ إِلَى امرأةٍ فِي شيءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا رَسُولًا فَأَسْقَطَتْ. فَقَالَ لِعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا تَقُولَانِ؟ فَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا أَنْتَ مؤدبٌ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ إِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا وَإِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ عَلَيْكَ الدِّيَةُ فَقَالَ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ يَعْنِي عَلَى قريشٍ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَتُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَحَدٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَمُوِتُ فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا أَلْحَقَ قَتْلَهُ إلا شارب الخمر فإنه رَأْيٌ رَأَيْنَاهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ أَوْ قَالَ فِي بَيْتِ الْمَالِ يَعْنِي فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ الَّذِي رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ اخْتِيَارًا وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرٌ.

وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>