للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا اخْتَصَّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ مُنْتَقِضٌ بِأَكْلِهِ مِنَ الجُوعِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَدْفُوعِ أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ نَفْسَهُ بِالطَّلَبِ فَصَارَ مَقْتُولًا بِحَقٍّ، وَهَذَا مقتول بظلم، فافترقا.

وقياسهم عَلَى الْإِكْرَاهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اسْتِحَالَتِهِ لِأَنَّ إِيلَاجَ الذَّكَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ انْتِشَارِهِ، وَانْتِشَارُ الذَّكَرِ، وَإِنْزَالُ مَائِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فَاسْتَحَالَ فِيهِ الْإِكْرَاهُ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى صِحَّةِ الْإِكْرَاهِ، فِيهِ لِأَنَّ انْتِشَارَ الذَّكَرِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الطَّبْعِ الْمُحَرِّكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لَا بِمَا رَكَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي طَبْعِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِالْإِكْرَاهِ اخْتِصَاصَهُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَتْلُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ نَقَلَ حُكْمَ الْمُبَاشَرَةِ عَنِ الْمَأْمُورِ إِلَى الْآمِرِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ تَعَدَّى عَنِ الْمَأْمُورِ إِلَى الْآمِرِ، وَالْفِعْلُ إِذَا تَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِ الْفَاعِلِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ الْفَاعِلُ، لِأَنَّ تَعَدِّيِهِ لِفَضْلِ قوته.

وجمعهم بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالْحَاكِمِ إِلْجَاءٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِالْقَوَدِ، وَمَنْ قَتَلَهُ الْمُكْرَهُ مَظْلُومٌ، وَالْقَاتِلُ فِيهِ مَأْثُومٌ فَوَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا افْتَرَقَا فِي جَوَازِ الْقَتْلِ افْتَرَقَا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ إِكْرَاهِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ وَوَلَّاهُ إِذَا أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الْقَتْلِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي إِكْرَاهِ الْإِمَامِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْآمِرِ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ قَوْلَانِ، لِأَنَّ طَاعَةَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ تَلْزَمُ كَلُزُومِ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ ".

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ بِمَاذَا يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَا كَرِهَتْهُ النَّفْسُ وَشَقَّ عَلَيْهَا مِنْ قَتْلٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ حَبْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ، كَالْإِكْرَاهِ فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>