تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: ٣٤] فَأَوْجَبَ النَّفَقَةَ لَهُنَّ وَلَمْ يُوجِبِ النَّفَقَةَ عَلَيْهِنَّ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: ٢٣٣] فَلَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمِّ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْأَبُ مِنَ الرَّضَاعِ وَجَبَ عَلَيْهَا مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْأَبِ مَظْنُونَةٌ فَلَمَّا تَحَمَّلَتْ بِالْمَظْنُونَةِ كَانَ تَحَمُّلُهَا بِالْمُسْتَيْقِنَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ الْوَلَدُ نَفَقَةَ أَبَوَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَ أَبَوَاهُ نَفَقَتَهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِوُرُودِهَا فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَحَمُّلُ الْأُمِّ لَهَا كَالْأَبِ خَرَجَ مِنِ الْتِزَامِهَا مَنْ عَدَا الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَارِبِ وَالْعَصَبَاتِ، وَاخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا وَالْتِزَامِهَا مَنْ فِيهِ بَعْضِيَّةٌ مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَا يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَقَارِبُ الْأَبِ وَأَقَارِبُ الْأُمِّ، فَإِنِ انْفَرَدَ بِهِ أَقَارِبُ الْأَبِ فَنَفَقَتُهُ بَعْدَ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ فَإِنْ عُدِمَ أَوْ أَعْسَرَ انْتَقَلَتْ عَنْهُ إِلَى جَدِّ الْجَدِّ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى جَدٍّ بَعْدَ جَدٍّ، فَإِذَا عُدِمَ جَمِيعُ الْأَجْدَادِ انْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إِلَى أُمِّ الْأَبِ لِقِيَامِهَا فِي الْحَضَانَةِ وَالْمِيرَاثِ مَقَامَ الْأَبِ، وَلَيْسَ يُشَارِكُهَا فِي دَرَجَتِهَا بَعْدَ الْجَدِّ أَحَدٌ، فَإِذَا صَعِدَتْ بَعْدَهَا دَرَجَةً اجْتَمَعَ فِيهَا بَعْدَ أَبِي الْجَدِّ ثَلَاثَةٌ: أُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأَبُ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي تَحَمُّلِهَا لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَعَدَمِ التَّعَصُّبِ، فَيَشْتَرِكُونَ فِي تَحَمُّلِهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَتَحَمَّلُهَا أُمُّ أَبِي الْأَبِ، لِأَنَّهَا مَعَ مُسَاوَاتِهِمْ في الدرجة أقرب إدلاءاً بِعَصَبَةٍ لِتَحَمُّلِهَا، وَأَرَى وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ، أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِمْ مَعَ اسْتِوَاءِ الدَّرَجِ وَارِثٌ وَغَيْرُ وَارِثٍ كَانَ الْوَارِثُ بِتَحَمُّلِهَا أَحَقَّ مِنْ غَيْرِ الْوَارِثِ لِقُوَّةِ الْوَارِثِ عَلَى مَنْ لَا يَرْثُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا لِقُوَّةِ سَبَبِهِ.
كَمَا تُقَدَّمُ الْعَصَبَةُ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ لِقُوَّتِهِمْ بِالتَّعَصُّبِ فَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْمِيرَاثِ تَحَمَّلَهَا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إدلاءاً بِعَصَبَةٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ رَحِمُهُمْ تَحَمَّلَهَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أُمُّ أَبٍ كَانَتْ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُنَّ اشْتَرَكْ فِي تَحَمُّلِهَا أُمُّ أبي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute