للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَأَظْهَرُهَا مَعْنَيَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِنْ قَالُوا: قَدِ اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُدْرَكَةَ بِالْحَوَاسِّ يُعْلَمُ خَفِيُّهَا بِمَا يُعْلَمُ بِهِ جَلِيُّهَا، فَمَا أُدْرِكَ جَلِيُّهُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُدْرَكْ خَفِيُّهُ إِلَّا بِهَا وَمَا أُدْرِكَ جَلِيُّهُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ لَمْ يُدْرَكْ خَفِيُّهُ إِلَّا بِهَا.

فَوَجَبَ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إِذَا أُدْرِكَ جَلِيُّهَا بِالسَّمْعِ أَنْ يَكُونَ خَفِيُّهَا مُدْرَكًا بِالسَّمْعِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا أَحْكَامَ السَّمْعِ بِأَحْكَامِ الْحِسِّ، فَأَثْبَتُوا بِالْقِيَاسِ نَفْيَ الْقِيَاسِ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّنَا نَجْمَعُ بَيْنَ أَحْكَامِ السَّمْعِ، وَأَحْكَامِ الْحِسِّ فَنَجْعَلُ خَفِيَّهَا مَأْخُوذًا مِنْ خَفِيِّ السَّمْعِ كَمَا كَانَ جَلِيُّهَا مَأْخُوذًا مِنْ جَلِيِّ السَّمْعِ، فَصَارَا مِثْلَيْنِ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ مَعْلُومَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَلُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحْكَامِهَا، كَمَا لَا تُوجَدُ الْعِلَلُ الْمَعْقُولَةُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ أَحْكَامِهَا، كَالْحَيِّ إِذَا ذُبِحَ فَمَاتَ لَمَّا كَانَ الذَّبْحُ عِلَّةَ الْمَوْتِ لَمْ يُوجَدِ الذَّبْحُ إِلَّا مَعَ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَتْ شِدَّةُ الْخَمْرِ عِلَّةً فِي تَحْرِيمِهِ لَوَجَبَ أَنْ لَا تُوجَدَ الشِّدَّةُ فِي وَقْتٍ إِلَّا وَالتَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقٌ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ كَانَتِ الشِّدَّةُ مَوْجُودَةً فِيهَا وَهِيَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، فَإِذَا حُرِّمَتِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا مَعْلُولًا بِالشِّدَّةِ، وَتَعَلَّقَ التَّحْرِيمُ بِالِاسْمِ دُونَ الْعِلَّةِ.

وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْمَاءِ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَا التَّحْلِيلُ فِي حَالٍ وَالتَّحْرِيمُ فِي أُخْرَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ أَعْلَامًا هِيَ أَسْمَاءٌ وَمَعَانٍ، فَلَمَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْأَسْمَاءِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَى الْمَعَانِي، وَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ الْمَعَانِي عَلَمًا لِلتَّحْلِيلِ فِي حَالٍ وَلِلتَّحْرِيمِ فِي أُخْرَى، كَمَا جَازَ أَنْ تُجْعَلَ الْأَسْمَاءُ عَلَمًا لِلتَّحْلِيلِ فِي حَالٍ وَلِلتَّحْرِيمِ فِي أُخْرَى، فَلِمَ أَبْطَلُوا بِهَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ وَلَمْ يُبْطِلُوا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ عَلَمًا لِلتَّحْرِيمِ؟

وَالثَّانِي: أَنَّ عِلَلَ الْعَقْلِ مُوجِبَةٌ لِأَعْيَانِهَا فَكَانَتْ أَحْكَامُهَا لَازِمَةً لِعِلَلِهَا، وَأَحْكَامُ السَّمْعِ طَارِئَةً حَدَثَتْ عِلَلُهَا بِحُدُوثِهَا، فَاخْتَلَفَتْ عِلَلُ الْعَقْلِ، وَعِلَلُ السَّمْعِ لِاخْتِلَافِ مَعْلُولِهِمَا فِي أَوَائِلِهِمَا، وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْآنَ أَحْكَامُ السَّمْعِ بِارْتِفَاعِ النَّسْخِ فَسَاوَتْ أَحْكَامَ الْعَقْلِ فِي الْأَوَاخِرِ وَإِنْ خَالَفَتْهَا فِي الْأَوَائِلِ، فَصَارَتْ أَحْكَامُ السَّمْعِ غَيْرَ مُفَارِقَةٍ لِعِلَلِهَا كَمَا كَانَتْ أحكام العقل غير مفارقة لها.

[(فصل: [القياس والنص] )]

:

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تُسْتَخْرَجُ بِهِ أَحْكَامُ الْفُرُوعِ مِنَ النُّصُوصِ

<<  <  ج: ص:  >  >>