وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا أَحْكُمُ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى يُحْلِفَهُ مَعَهَا، كَمَا لَا أَحْكُمُ لَهُ عَلَى غَائِبٍ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ فِي إِحْلَافِهِ مَعَ بَيِّنَتِهِ قَدْحًا فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْلِفُ فِي الْغَائِبِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ، وَالْحَاضِرُ لَوْ قَضَاهُ لَذَكَرَهُ.
فَلَوْ أَخَّرَ الْمُدَّعِي إِحْضَارَ بَيِّنَتِهِ، وَأَرَادَ مُلَازَمَةَ خَصْمِهِ عَلَى إِحْضَارِهِ، سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَةُ الْخَصْمِ وَقِيلَ لَهُ لَكَ الْخِيَارُ فِي تَأْخِيرِهِ إِلَى حُضُورِ بَيِّنَتِكَ، أَوْ تُحْلِفُهُ فَتَسْقُطُ الدَّعْوَى، فَإِنْ حَضَرَتْ بَيِّنَتُكَ لَمْ تَمْنَعِ الْيَمِينُ مِنْ سَمَاعِهَا.
وَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي الْبَلَدِ، فَأَرَادَ مُلَازَمَتَهُ عَلَى حُضُورِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ مَا كَانَ مَجْلِسُ الْحُكْمِ فِي يَوْمِهِ بَاقِيًا.
فَإِذَا انْقَضَى الْمَجْلِسُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُلَازَمَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ أَحْوَالُهُ بِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ.
فَإِنْ شَهِدَتْ أَحْوَالُهُ بِوُجُودِ الْبَيِّنَةِ جَازَ أَنْ يُلَازِمَهُ إِلَى غَايَةٍ أَكْثَرُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُهَا.
وَلَا يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ كَفِيلٍ بِنَفْسِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ أَبَدًا مَا كَانَ حُضُورُهَا مُمْكِنًا أَوْ يُعْطِيهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِرِوَايَةِ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ اسْتَعْدَى رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على رجل في حق له، فقال له: الْزَمْهُ.
وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ سِمَاكٌ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي، وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: أَرْضِي وَفِي يَدِي أزرعها لا حق له فيها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْحَضْرَمِيِّ: " شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ " فَقَالَ: إِنَّهُ فَاجِرٌ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ: " لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ " فَنَفَى اسْتِحْقَاقَ الْمُلَازَمَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فهو أَنَّهُ إِذْنٌ فِي الْمُلَازَمَةِ عَلَى حَقٍّ، وَالْحَقُّ مَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ.
(فَصْلٌ)
: وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي إِحْلَافِ الْمُنْكِرِ.