وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا شَرَعَ فِي الْخُصُومَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إِلَّا بِحُضُورِ الْمُوَكِّلِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ شُرُوعَ الْوَكِيلِ فِي الْمُخَاصَمَةِ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَّا إِلَى مُسْتَحِقِّهِ كَالْوَدِيعَةِ لَيْسَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِدَامَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا إِلَّا إِلَى مُسْتَوْدَعِهِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا فِي دَفْعِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُعْتَبَرًا فِي رَفْعِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ طَرْدًا وَكَالْإِقَالَةِ عَكْسًا وَكَانَ كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ فَسْخُ الْوَكَالَةِ بِحُضُورِ صَاحِبِهِ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهَا كَالْمُوَكِّلِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وكالة يصح من الموكل أن ينفرد بفسخه فَصَحَّ مِنَ الْوَكِيلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ كَالْوَكَالَةِ التي لم يشرع الوكيل في المخاصمة فيها.
وَلِأَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْسَخَ إِلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ كَالْبَيْعِ أَوْ يَكُونَ كَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ كَالْجَعَالَةِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرِّضَا فِيهِ مُعْتَبَرًا كَانَ التَّفَرُّدُ بِفَسْخِهِ جَائِزًا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ إِضَاعَةً لِحَقِّهِ كَالْوَدِيعَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا حَقًّا كَالْمُودَعِ الَّذِي بِيَدِهِ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهِ بِرَدِّهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ لَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَالٌ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ، فَسَخَ الْوَكِيلُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ: إِنِّي قَدْ فَسَخْتُ الْوَكَالَةَ أَوْ خَرَجْتُ مِنْهَا. سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُوَكِّلُ بِالْفَسْخِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ.
فَأَمَّا فَسْخُ الْمُوَكِّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إِنِّي قَدْ فَسَخْتُ الْوَكَالَةَ أَوْ عَزَلْتُ الْوَكِيلَ عَنْهَا أَوْ أَخْرَجْتُهُ مِنْهَا وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ بِهِ الْوَكِيلَ أَمْ لَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْفَسْخُ إِلَّا بِقَوْلِهِ وَإِعْلَامِ الْوَكِيلِ بِفَسْخِهِ فَمَتَى لَمْ يَعْلَمُ فَهُوَ عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ فِيمَا عَقَدَهُ الْمُوَكِّلُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَلِّهَا.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَقْيَسُ شَيْئَانِ: -
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمُوَكِّلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسْخِ الْوَكَالَةِ لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْوَكِيلِ مُعْتَبَرًا فِي فَسْخِ الْوَكَالَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنَ رَفْعُهُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ جَازَ لَهُ رَفْعُهُ بِغَيْرِ