وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ فِي إِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ الْمَوْجُودَةِ تَعْدِيلَ بَيِّنَتِهِ، وَثُبُوتَ حَقِّهِ، وَإِلْزَامَ خَصْمِهِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِإِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
فَإِنْ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ الْإِسْجَالَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَالْإِشْهَادَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَانَ فِي وُجُوبِ الْإِسْجَالِ بِهِ وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ كَتْبِ الْمَحْضَرِ بِالْإِقْرَارِ.
وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْيَمِينِ، وَأَحْلَفُهُ عَلَى إِنْكَارِهِ وَسَأَلَهُ الْإِشْهَادَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلَافِهِ، لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنَ الدَّعْوَى مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَاحْتَاجَ إِلَى حُجَّةٍ يَسْقُطُ بِهَا الرُّجُوعُ فِي مُطَالَبَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ إِلَّا إِشْهَادَ الْقَاضِي عَلَى نَفْسِهِ.
فَإِنْ سَأَلَهُ كَتْبَ مَحْضَرٍ بِإِحْلَافِهِ وَالْإِشْهَادِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ فِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.
وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي الْمُطَالَبَةُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى إِنْكَارِ خَصْمِهِ، وَإِحْلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ عليه، وليست له.
[(فصل: القول في المحاضر والسجلات) .]
فَأَمَّا صِفَةُ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ فَلِلْقُضَاةِ فِيهِمَا عُرْفٌ وَشُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِيهَا مِنْ تَوَجُّهِ الظُّنُونِ وَوُقُوعِ الِاشْتِبَاهِ.
فَأَمَّا الْمَحْضَرُ: فَهُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ وَمَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ مِنْ دَعْوَى وَإِقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ وَبَيِّنَةٍ وَيَمِينٍ.
فَأَمَّا السِّجِلُّ: فَهُوَ تَنْفِيذُ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَإِمْضَاءُ مَا حَكَمَ بِهِ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ.
فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْمَحْضَرِ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ جَرَى مَجْرَى السِّجِلِّ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَهُ لَفْظُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ السِّجِلِّ، وَإِنْ ذَكَرَ السِّجِلَّ حِكَايَةَ الْحَالِ جَرَى مَجْرَى الْمَحْضَرِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمَحْضَرِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَعْدِلَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ مَوْضُوعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَحْضَرِ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ الْحَاكِمُ مَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِيَحْكُمَ فِيهِ بِمُوجِبِ الشَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ بِالسِّجِلِّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِمَا نَفَّذَ بِهِ الْحُكْمَ. فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ.
وَصِفَةُ الْمَحْضَرِ أَنْ يُكْتَبَ: حَضَرَ الْقَاضِي فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامُ فَلَانٌ عَلَى بَلَدِ كَذَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ فِي مَوْضُوعِ كَذَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْضَرُ عَلَى إِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ.