كَمَنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِطَلَاقِهَا، كَانَتْ شَهَادَةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ بِغَيْرِهَا.
فَلَوْ شَهِدَ بِالْجَرْحِ اثْنَانِ وَشَهِدَ بِالتَّعْدِيلِ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ أَكْثَرَ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ.
وَلَكِنْ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِجَرْحِهِ. فِي سَنَةٍ أَوْ بَلَدٍ، ثُمَّ شَهِدَ اثْنَانِ بِتَعْدِيلِهِ فِي سَنَةٍ بَعْدَهَا، أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ، انْتَقَلَ إِلَيْهِ، حَكَمَ بِتَعْدِيلِهِ دُونَ جَرْحِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْفِسْقِ إِلَى الْعَدَالَةِ، وَيَهْفُو كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ثُمَّ يَسْتَقِيمُونَ.
(لَا يقبل الجرح إلا بيقين)
[(مسألة)]
: قال الشافعي: " وَلَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ إِلَا بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالسَّمَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ قَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: بِالْأَفْعَالِ، كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.
وَالثَّانِي: بِالْأَقْوَالِ، كَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَالسِّعَايَةِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَالثَّالِثُ: بِالِاعْتِقَادِ، كَاسْتِحْلَالِ الْمَحْظُورَاتِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَاتِ.
فَالْأَفْعَالُ: تُعْلَمُ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْأَقْوَالُ: تُعْلَمُ بِالسَّمَاعِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِقَادُ.
فَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْجَارِحِ إِذَا شَهِدَ بِأَفْعَالِ الْجَرْحِ إِلَّا إِذَا شَاهَدَهَا.
وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا شَهِدَ بِأَقْوَالِ الْجَرْحِ إِلَّا إِذَا سَمِعَهَا.
وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا قَالَ بَلَغَنِي وَقِيلَ لِي.
وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى بِالْجَرْحِ بِالْأَفْعَالِ وَلَا فِي الْأَقْوَالِ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَهَا، وَأَمَّا الْأَقْوَالُ فَلِأَنَّهُ، وَإِنْ سَمِعَهَا فَلَيْسَ يَتَحَقَّقُهَا مِنَ الْمَجْرُوحِ لِاشْتِبَاهِ صَوْتِهِ بِصَوْتِ غَيْرِهِ.
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِهَا عَنِ الْإِخْبَارِ فَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخْبِرِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ الَّتِي لَا يَعْتَرِضُهَا ارْتِيَابٌ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، كَمَا يَشْهَدُ بِالْأَنْسَابِ، وَبِالْأَمْلَاكِ، وَالْمَوْتِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْبَصِيرِ فِي الْعِلْمِ بِهَا.
فَإِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ الْجَرْحَ إِمَّا بِالْمُعَايَنَةِ لِلْأَفْعَالِ أَوْ بِالسَّمَاعِ لِلْأَقْوَالِ أَوْ بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِلا مَنْ شَهِدَ بالحق وهم يعلمون} .