يَكُونُ فِي مَوْضِعَيْنِ: إِمَّا فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي دَارَكَ رَهْنًا. أَوْ فِي الْقَرْضِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَبْدَكَ رَهْنًا، فَيَصِيرُ الرَّهْنُ مَعْقُودًا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ عَلَيْهِ وَلَا تَأَخُّرٍ عَنْهُ. فَهَذَا أَيْضًا رَهْنٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ صَحَّتْ مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الرَّهْنِ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِ الرَّهْنِ، وَبَيْنَ مَنْعِهِ. فَإِنْ أَقْبَضَ الرَّهْنَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ الْبَائِعِ، وَإِنْ مَنَعَ إِقْبَاضَهُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ فَسْخِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهِ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ قَدْ صَارَ صِفَةً لِعَقْدٍ لَازِمٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ فِي اللُّزُومِ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ، فَوَجَبَ أَلَّا يُجْبَرَ عَلَيْهَا مَعَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ كَالشَّهَادَةِ وَالضَّمَانِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يُجْبَرُ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ ضَمِينٍ، لَمْ يُجْبَرْ فِيهِ عَلَى إِقْبَاضِ رَهْنٍ.
أَصْلُهُ: الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ بِغَيْرِ ضَمِينٍ وَلَا رَهْنٍ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الرَّهْنَ قَدْ صَارَ بِالشَّرْطِ صِفَةً لِلْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كَالْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ، لَا يَصِحُّ انْفِرَادُهُمَا عَنِ الْعَقْدِ أَنْ يَصِيرَا صِفَةً لِلْعَقْدِ. وَالرَّهْنُ عَقْدٌ عَلَى حَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ، وَلَا يَصِيرُ صِفَةً لِغَيْرِهِ.
[(فصل)]
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ قَبْلَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ. فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ رَهَنْتُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي، أَوْ تُبَايِعَنِي، أَوْ عَلَى مَا يَحْصُلُ لَكَ عَلَيَّ، فَهَذَا رَهْنٌ بَاطِلٌ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ إذا ضمن له ما لا قَبْلَ ثُبُوتِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَقَدُّمُ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ عَلَى ثُبُوتِ الدَّيْنِ جَائِزٌ لِجَوَازِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] .
فَجَعَلَ لُزُومَ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ تَقَدُّمَ الْحَقِّ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِهِ قَبْلَ، وَبَعْدَ.
وَلَوْ كَانَ تَقَدُّمُ الْحَقِّ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ لَقَيَّدَ الرَّهْنَ بِهِ، كَمَا قَيَّدَهُ بِالْقَبْضِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ هِيَ وَثِيقَةٌ لِلْبَائِعِ فِي الْحَقِّ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحَقِّ كَالْبَائِعِ