للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويسعون} [المائدة: ٣٣] الآية إلى أن قال: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: ٣٣] فاقتصر بحدوده عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا قَالَ: وَلِأَنَّ الْحُدُودَ فِي الْحِرَابَةِ من حقوق الله تعالى الْمَحْضَةِ وَلَيْسَتْ قِصَاصًا لِانْحِتَامِهَا وَسُقُوطِ الْخِيَارِ فِيهَا متداخل الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ جِنْسِهِ كَمَنْ زَنَا بِكْرًا ثُمَّ زَنَا ثَيِّبًا دَخَلَ جَلْدُهُ فِي رَجْمِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِمَا يُسْتَوْفَى عَلَى الْمُحَارِبِ مِنْ جَرْحٍ وَقَطْعٍ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَمَعَ اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ يَزُولُ مَقْصُودُ الرَّدْعِ بِغَيْرِهِ فَسَقَطَ.

وَدَلِيلُنَا قول الله تعالى: {الجروح قِصَاصٌ} [المائدة: ٤٥] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُحَارِبِ وغيره؛ ولأن كُلَّ عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ لَمْ تَسْقُطْ فِي الْحِرَابَةِ كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ فِي الْحِرَابَةِ كَالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّهُمَا نَوْعَا قِصَاصٍ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْحِرَابَةِ؛ وَلِأَنَّ عُقُوبَاتِ الْحِرَابَةِ أَغْلَظُ لِانْحِتَامِ الْقَتْلِ وَزِيَادَةِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مِنَ العقوبة المظهرة ما تضمنتها من الأسباب المضمرة، ولم تضمر فيها الجراح، فلم يظهر فيها حكمه.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ من حقوق الله تعالى، فَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ فِيهِ هُوَ قِصَاصٌ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِدَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُحَارِبَ لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عَنْهُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَسْقُطْ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا انْحِتَامُهُ وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ فِي اسْتِيفَائِهِ، فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ.

وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ رَدْعٌ، فَسَقَطَ بِالْقَتْلِ يَبْطُلُ بِقَطْعِ السَّرِقَةِ، وَالْقَتْلُ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ رَدْعًا.

(فَصْلٌ)

فَإِذَا ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجَرْحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ كَالْجَائِفَةِ وَجَبَ أَرْشُهَا لِلْمَجْرُوحِ، وَكَانَ حُكْمُهَا فِي الْحِرَابَةِ كَحُكْمِهَا فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قِصَاصٌ كالْمُوضِحَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: بِانْحِتَامِهِ قُدِّمَ الْقِصَاصُ مِنْهَا عَلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ.

وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِمُنْحَتِمٍ وُقِفَ عَلَى خِيَارِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ أَرَادَ الْقِصَاصَ قُدِّمَ عَلَى الْقَتْلِ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الْمَالِ طُولِبَ بِهِ المحارب قبل قتله، فإذا أداه وعرف وَجْهَهُ قُتِلَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا عَرَّفَ وَجْهَهُ اسْتُبْقِيَ حَتَّى يُسْتَكْشَفَ عَنْ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ غُرْمُ مَا اسْتَهْلَكَهُ مِنَ الْمَالِ ثُمَّ قُتِلَ إِنْ ظَهَرَ مَالٌ أَوْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْهُ.

(فَصْلٌ)

وَإِذَا جَمَعَ الْمُحَارِبُ فِي الْحِرَابَةِ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَبَيْنَ قَطْعِ طَرَفٍ بِجِنَايَةٍ جُمِعَ عَلَيْهِ بَيْنَ قَطْعِهِ فِي الْمَالِ وَقَطْعِهِ فِي القصاص، ومنع أبو حنيفة من الجمع بينهما،

<<  <  ج: ص:  >  >>