الْمَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَأُحْصِرَ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَفُوتُ، كَمَا أَنَّ الْحَجَّ هُنَاكَ بَعْدَ شَهْرٍ لَيْسَ يَفُوتُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ لَوْ لَمْ يَحْصُرْ لَمْ يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَلْتَزِمْ بِالْإِحْصَارِ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِحْصَارٌ لَأَمْكَنَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِ يَلْتَزِمُ اسْتِدَامَةَ إحرامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا تَيَقَّنَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْكِشَافُ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَتَيَقَّنْهُ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، وَلَوِ انْتَظَرَ مُرُورَ أَيَّامٍ لا يخالف مَعَهَا فَوَاتَ الْحَجِّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ عَجَّلَ الْإِحْلَالَ كَانَ جَائِزًا، فَلَوْ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى انْكَشَفَ الْعَدُوُّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَمَضَى فِي إِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، أَتَى بِأَرْكَانِ الْعُمْرَةِ، وَأَحَلَّ مِنْهَا، وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا فَإِنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، أَتَمَّ حَجَّهُ، وَأَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَأَحَلَّ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وحلاق، ولزمه دَمُ الْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ الَّذِي لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا لَمْ يكن له طريق غير الطريق الذي أُحْصِرَ فِيهَا.
: فَأَمَّا إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ في هذا الطريق عدو مَانِعٌ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ:
إِمَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قِلَّةِ مَاءٍ أَوْ مَرْعَى، أَوْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ لِصٍّ غَالِبٍ، أَوْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ قَاهِرٍ، أَوْ يُضْطَرَّ فِيهِ إِلَى رُكُوبِ بَحْرٍ، أَوْ يَحْتَاجَ فِيهِ إِلَى زِيَادَةِ نَفَقَةٍ وَهُوَ لَهَا عَادِمٌ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْذَارُ لَا يَلْزَمُهُ مَعَهَا سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْآخَرِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا الطَّرِيقَ الَّتِي أَحُصِرَ فِيهَا، فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ سُلُوكِ هَذَا الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَهُ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ سَوَاءٌ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ بِسُلُوكِهِ مُمْكِنًا أَمْ لَا، فَإِنْ سَلَكَهُ وَوَصَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَجُزْأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا حِينَ سَلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ عَرَفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ بِالْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ الْإِدْرَاكِ لَمْ يَكُنْ بِالْإِحْصَارِ، وَلَا لِلْإِحْصَارِ فِيهِ تَأْثِيرٌ؛ فَلِذَلِكَ لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ دَمُ الْفَوَاتِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute