للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُحْرِمِ ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْحَالِقِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي شَعْرِ المحرم، وهي يَجْرِي عِنْدَهُ مَجْرَى الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي؟ أَوْ مَجْرَى الْعَارِيَةِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِكُلِّ حَالٍ؟ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.

فَصْلٌ

: فَإِذَا تَقَرَّرَ شَرْحُ الْمَذْهَبِ وَتَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فِي صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ، فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْحَالِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، فَأَمَّا الصِّيَامُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَصَحُّهُمَا: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَقَرٌّ عَلَيْهِ فَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ.

وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ بها تحملها الْمُحْرِمُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ، إِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ تَحَمُّلَ الْفِدْيَةِ عِنْدَ إِعْسَارِ الْحَالِقِ، أَوْ غَيْبَتِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ، وَالْإِطْعَامِ، فَأَمَّا الصِّيَامُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَعْمَالُ الْأَبْدَانِ لَا يَجُوزُ تَحَمُّلُهَا عَنِ الْغَيْرِ، بأن افْتَدَى بِالدَّمِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، ثُمَّ أَيْسَرَ الْحَالِقُ بَعْدَ إِعْسَارِهِ، أَوْ قَدِمَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ افْتَدَى بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْحَالِقِ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدِ افْتَدَى بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْحَقِّ شَيْءٌ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِدُونِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ صَارَ كَالْمُتَطَوِّعِ بِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ، وَالزِّيَادَةُ تَطَوُّعٌ؛ فَسَقَطَ رُجُوعُهُ بِالتَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَسْقُطْ رُجُوعُهُ بِالْوَاجِبِ.

فَصْلٌ

: وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَلَالُ إِلَى الْمُحْرِمِ، فَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَالْمُحْرِمُ سَاكِتٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ، فَيَكُفُّ عَنْهُ، فَهَلْ يَكُونُ سُكُوتُهُ رِضًى بِالْحَلْقِ؟ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُكُوتَهُ رِضًى يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ، فَتَكُونُ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ رِضًا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي الْبِكْرِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سُكُوتَهُ لَيْسَ بِرِضًى، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُنِيَ عَلَى مَالِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًى مِنْهُ يَجْرِي مَجْرَى إِذْنِهِ، لِمَنْعِهِ مِنْ مُطَالَبَةِ الْجَانِي يَقُومُ مَقَامَهُ، كَذَلِكَ هنا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَالِقِ عَلَى مَا مَضَى.

فَصْلٌ

: فَلَوْ أَمَرَ حَلَالٌ حَلَالًا أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ مُحْرِمٍ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْحَالِقِ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ مَنْسُوبٌ إِلَى الآمر، وإنما الحالق كالآلة، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْآمِرَ، كَانَتِ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِقِ، فَكَذَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ أَجْنَبِيًّا.

<<  <  ج: ص:  >  >>