لَمَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي النَّفْيِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَبَرَّ فِي الْإِثْبَاتِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ كَمَا لَا يَحْنَثُ فِي النَّفْيِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ، وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ صَارَ مَحْكُومًا بِحِنْثِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى بِرِّهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، يَكُونُ حَانِثًا، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ وَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَقِيبَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْبِرِّ يَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْحِنْثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ مِنْ آخِرِ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى التَّرَاخِي، فَكَانَ تَحْقِيقُ الْحِنْثِ عَلَى التَّرَاخِي.
[(فصل:)]
وإذا حلف لأشرب ما مَاءِ دِجْلَةَ، فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، أَوْ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَخُصُّ الْيَمِينَ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبُ مَاء فُرَاتا حَنِثَ بِشُرْبِهِ مِنْ دِجْلَةَ وَمِنَ الْفُرَاتِ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْفُرَاتَ هُوَ الْعَذْبُ، فَحَنِثَ بِشُرْبِ كُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) {المرسلات: ٢٧) أَيْ: عَذْبًا، وَلَا فَرْقَ إِذَا حَلَفَ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ مِنْ إِنَاءٍ اغْتَرَفَ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ كَرْعًا بِفِيهِ كَالْبَهِيمَةِ.
فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ، لَا شَرِبْتُ مِنْ دِجْلَةَ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا كَرْعًا بِفَمِهِ حَنِثَ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ وَشَرِبَ مِنَ الْإِنَاءِ حَنِثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ، وَلَا يَبَرُّ إِنِ اغْتَرَفَ بِيَدِهِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَأَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ، فَاغْتَرَفَ مِنْ مَائِهِ، وَشَرِبَهُ لَمْ يحنث كذلك إذا حلف لأشربت مِنْ دِجْلَةَ، فَاغْتَرَفَ مَا شَرِبَهُ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَحْنَثْ بِوُقُوعِ الْيَمِينِ عَلَى مُسْتَقَرِّ الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَالثَّانِي: إنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ، وَمِنْ مَائِهَا مجازٌ، وَحَمْلُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ.
وَدَلِيلُنَا: أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: إنَّ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ مُضْمَرٌ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالشُّرْبِ، كَمَا يُقَالُ: شَرِبَ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ دِجْلَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْفُرَاتِ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَمَاءِ الْفُرَاتِ فَصَارَ إِضْمَارُهُ كَإِظْهَارِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَوْ حَلَفَ: لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَانِثًا فَشَرِبَهُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَجَبَ إِذَا حَلَفَ، لَأَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَنْ يَحْنَثَ بِشُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حالٍ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ مَقْصُودٌ كَالْمُظْهَرِ.