(بَابُ الْأَسِيرِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الْعَهْدُ أَنْ لَا يهرب، أو على الفداء)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أُسِرَ الْمُسْلِمُ فَأَحْلَفَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَّا أَنْ يُخْلُوهُ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقِيمَ وَيَمِينُهُ يَمِينُ مُكْرَهٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا مُمْتَنِعًا، أَوْ مُسْتَضْعَفًا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْتَضْعَفًا لَا يَأْمَنُ أَهْلَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فيها} . الآية [النساء: ٩٧] . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا " يَعْنِي تُنْظَرُ نَارُهُ إِلَى نَارِهِ فَيَكْثُرُ سَوَادُ الْمُشْرِكِينَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ "، وَلِأَنَّهُ لَا يَأَمَنُ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ أَوْ تُسْبَى الدَّارُ فَيُسْتَرَقُّ وَلَدُهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْهِجْرَةِ لِضَعْفِهِ كَانَ مَعْذُورًا فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْهِجْرَةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: ٩٨ - ٩٩] .
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُمْتَنِعًا فِي أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ الِافْتِتَانَ عَنْ دِينِهِ كَانَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَمِنَ الِافْتِتَانَ فِي دِينِهِ سَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ عَنْهُ، لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا نَصًّا بِالْمُسْتَضْعَفِينَ وَكَانَ مُقَامُهُ بَيْنَهُمْ مكروها، لأن المقام على مشاهدة المنكرات منكرا، وَالْإِقْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ مَعْصِيَةٌ، لِأَنَّهَا تَبْعَثُ عَلَى الرِّضَا، وَتُفْضِي إِلَى الْوَلَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} [المائدة: ٥١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute