للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَالَفَ بِذَلِكَ أُصُولَ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْقَوْلَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ طَلَبِ الْعَيْنِ، وَيَجْعَلُ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ الْأَقَاوِيلِ، وَيَجْعَلُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَنَقَضَ بِفُرُوعِ الِاجْتِهَادِ أُصُولَ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَفَى بِهَذَا التَّنَاقُضِ فَسَادًا لِقَوْلِهِ وَوَهَنًا لِمَذْهَبِهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ابْتَدَعَ بِذَلِكَ طَرِيقَةً خَرَقَ بِهَا إِجْمَاعَ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِهِ مَنْ أَجَابَ فِي حُكْمٍ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَكَانُوا مِنْ بَيْنِ مَنِ اسْتَقَرَّ لَهُ جَوَابٌ ذَكَرَهُ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ فَأَمْسَكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حُكْمٍ بِقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مَا أَبَانَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ، وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ بِالْقَوْلَيْنِ كَخَرْقِهِ بِغَيْرِ الْقَوْلَيْنِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ التَّنَاقُضَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُمْتَنِعٌ، وَالْحَلَالَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَالْحَرَامَ لَيْسَ بِحَلَالٍ، وَالْإِثْبَاتَ لَيْسَ بِنَفْيٍ، وَالنَّفْيَ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ، وَهُوَ بِالْقَوْلَيْنِ قَدْ حَلَّلَ الشَّيْءَ فِي أَحَدِهِمَا وَحَرَّمَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَثْبَتَهُ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَاهُ الْآخَرُ، وَمَا أَضَافَ إِلَى الشَّرْعِ مُمْتَنِعًا فِيهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَدْفُوعًا بِهِ.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِرْسَالُ الْقَوْلَيْنِ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لضعف اجتهاده، أو لرأيه في تكافئ الْأَدِلَّةِ، وَضَعْفُ الِاجْتِهَادِ نَقْصٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فيه تابعا غير متبوع، وتكافئ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ تَكَافُئِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ فِيهَا وَلَا مَذْهَبَ يَعْتَقِدُهُ فِيهَا.

فَأَبْطَلُوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِالْقَوْلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ كَانَ مَا اعْتَرَضُوا بِهِ كَثِيرًا.

فَنَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا أَقْسَامَ الْقَوْلَيْنِ فَإِذَا تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ لَزِمَ الِانْفِصَالُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ سقط.

[(فصل: [أنواع قولي الشافعي] )]

وذكره الشَّافِعِيُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقَيِّدَ جَوَابَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيُطْلِقَهُ فِي آخَرَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ " إِنَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: " أَقَلُّهُ يَوْمٌ " يُرِيدُ بِهِ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَهَذَا مَعْهُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا قَيَّدَ مِنْ جِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] . حُمِلَ إِطْلَاقُهُ فِي الْعَدَالَةِ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] . وَمِثْلُ هَذَا لَا اعْتِرَاضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِيهِ. وَإِنْ وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، فَلَمْ يَعُدْ وَهْمُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُهُ، وَمَعَانِيهَا مُتَّفِقَةٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ في

<<  <  ج: ص:  >  >>