الْمُبَارَزَةِ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ومن ذكرنا من أهله وأصحابه فدل إلى استحبابه.
[(فصل)]
فأما الدعاء على الْمُبَارَزَةِ فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ بِدُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافة} وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ نَهَى بِصِفِّينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْمُبَارَزَةِ، وَقَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ: لَا تَدْعُوَنَّ إِلَى الْبِرَازِ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ بَاغٍ وَالْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {انفروا خفافا وثقالا} قِيلَ: خِفَافًا فِي الْإِسْرَاعِ إِلَى الْمُبَارَزَةِ وَثِقَالًا فِي الثَّبَاتِ لِلْمُصَابَرَةِ.
وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْمُبَارَزَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَالَ: " لَا بَأْسَ بِهِ " وَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشَ مُؤْتَةَ، وَقَالَ: الْأَمِيرُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَالْأَمِيرُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ فَالْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فإن أصيب فليرتضي الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا، فَتَقَدَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَبَرَزَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَبَرَزَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَاخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَقَاتَلَ وَحَمَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَاضُوا وَعَادُوا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ بِعِظَمِ ثَوَابِهِمْ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَأَخَذَ سَيْفًا فَهَزَّهُ وَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ " فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ هَزَّهُ ثَانِيَةً، وَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ أَنَا آخُذُهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ هَزَّهُ ثَالِثَةً وَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ " فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتْيَ يَنْحَنِيَ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَتَعَمَّمَ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ وَمَشَى إِلَى الْحَرْبِ مُتَبَخْتِرًا، وَهُوَ يَقُولُ
(أَنَا أَخَذْتُهُ فِي رِقِّهِ ... إِذْ قِيلَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ)
(قَبِلْتُهُ بِعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ ... لِلْقَادِرِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ خَلْقِهِ)
(الْمُدْرِكِ الْقَابِضِ فَضْلَ رِزْقِهِ ... مَنْ كَانَ فِي مَغْرِبِهِ وشرقه)
فعاد وقد تكأ وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ فِي مَشْيِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ " فَإِذَا لَمْ يَكْرَهْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُبَارَزَةِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكْرَهَ لَهُمْ مُبَارَزَةَ أَحَدِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute