فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَعَلَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَقِيَاسُ الْمَعْنَى يَجُوزُ خِلَافُهُ إِذَا كَانَ خَفِيًّا، وَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ إِذَا كَانَ جَلِيًّا، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْجَلِيَّ دُونَ الْخَفِيِّ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَهُمَا مَعًا فَالْجَلِيُّ لَا يَجُوزُ خِلَافُ حُكْمِهِ وَالْخَفِيُّ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قِيَاسِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ مَا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مِنْ قِيَاسَيِ الْمَعْنَى وَقِيَاسِ التَّحْقِيقِ مِنْ قِيَاسي الشَّبَهِ، لِأَنَّ خِلَافَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَأَرَادَ بِالْقِيَاسِ الثَّانِي: مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ مِنْ قِيَاسي الْمَعْنَى وَقِيَاسُ التَّقْرِيبِ مِنْ قِيَاسي الشَّيْءِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى لَفْظِهِ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَحْمُولًا عَلَى معنى حكمه.
( [حُكْمُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَتَخْطِئَتُهُ لِلْمُجْتَهِدِينَ] )
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٩] قَالَ الْحَسَنُ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمِدَ هَذَا لِصَوَابِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِاجْتِهَادِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ مَا أَغْنَى، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ بَيَانِ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى طَلَبِ الْعَيْنِ، وَإِصَابَةِ الْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ. وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادَ لِيَعْمَلَ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِ أَقَاوِيلِ الْمُجْتَهِدِينَ، لَا فِي جَمِيعِهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ الْحَقَّ فِي جَمِيعِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُصِيبَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَأَنَّ كُلَّهُمْ مُخْطِئٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْحُكْمِ، إِلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْحُكْمِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا عِنْدَ اللَّهِ وفي الحكم.
( [الاعتراض على الشافعي بأن له في المسألة الواحدة قولين] )
فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الِاجْتِهَادِ اعْتَرَضَ بِهَا عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَهُ فِي إِنْكَارِ الْقَوْلَيْنِ، فَقَالُوا: كَيْفَ اسْتَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي حَادِثَةٍ بِقَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ وَأَكْثَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ طَلَبَ الْعَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ وَأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُخْطِئٌ إِلَّا وَاحِدًا.
فَكَانَ حُكْمُهُ بِالْقَوْلَيْنِ خَطَأً مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: