وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: ١١٥] فَفِيهِ سِتَّةُ تأويلات:
أحدهما: مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَقْبِلَ حَيْثُ شَاءَ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلسَّائِرِ حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَلِلْخَائِفِ فِي الْفَرْضِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ شَرْقٍ، أَوْ غَرْبٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فَلَمْ يَعْرِفُوهَا فَصَلَّوْا إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠] قَالُوا إِلَى أَيْنَ فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: ١١٥] وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ
وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ، أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَسْتَقْبِلُونَهَا
وَالسَّادِسُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين استقبلت الْكَعْبَةَ تَكَلَّمَتِ الْيَهُودُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ ابن عباس
(فَصْلٌ)
: ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ كَرِهَ اسْتِقْبَالَهَا وَأَحَبَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا في سبب كراهيته لها قال مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا كَرِهَهَا لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ فِيهَا، وَلَا يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا، وَيُخَالِفُ ديننا، وكانوا يقولون إن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ مَا دَرَوْا أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَرِهَهَا، لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرِهَ الْعُدُولَ عَنْهَا فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَ قِبْلَتَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: ١٤٤] يَعْنِي: الْكَعْبَةَ {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: ١٤٤] أَيْ: نَحْوَهُ وَجِهَتَهُ، وَعَنَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْكَعْبَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: ٩٧] فَنَسَخَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفَرَضَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِ النَّسْخِ فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا [وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ فِي شَعْبَانَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute