(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَقُلْنَا بِجَوَازِ الْكَفَالَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَصِحَّتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَكْفُولِ بِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ الْمَالِ الْمَضْمُونِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمَكْفُولِ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمَضْمُونِ لَهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ حَقٌّ يُسْتَحَقُّ مُطَالَبَتُهُ بِهِ وَهَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَقِّهِ؟ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْكَفِيلِ بِقَدْرِ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ مِنَ الدَّيْنِ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَوْتَ الْمَكْفُولِ بِهِ يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمَ الدَّيْنِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْكَفِيلِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ لَا تَلْزَمُ وَأَنَّ جَهَالَتَهُ بِهِ لَا تَضُرُّ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَوْتَ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ غُرْمَ الدَّيْنِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ عَنْ أَمْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ، وَإِذْنِهِ، فَإِنْ كَفَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ تَصِحَّ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ كَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ أَنَّ الضَّمَانَ يُوجِبُ غُرْمَ مَالٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الضَّامِنِ دُونَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْكَفَالَةُ تُوجِبُ تَسْلِيمَ نَفْسٍ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَمْكِينِ الْمَكْفُولِ بِهِ.
فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَلْزَمُهُمَا حُقُوقُ الْأَمْوَالِ فَصَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِهِمَا، وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ أَمْرَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، فَلَوْ أَمَرَهُ الِابْنُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْأَبِ سُؤَالٌ وَطَلَبٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْكَفَالَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْكَفَالَةُ وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَهَذَا عُرْفُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَوْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِوَجْهِ فُلَانٍ وَهَذَا عُرْفُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَفِي مَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ بِرُوحِ فُلَانٍ وَفِي مَعْنَى الثَّانِي أَنْ تَقُولَ كَفَلْتُ لَكَ بِرَأْسِ فُلَانٍ فَتَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهَذَا كُلِّهِ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ كَفَلْتُ لَكَ بِجِسْمِ فُلَانٍ، أَوْ بِبَدَنِ فُلَانٍ صَحَّتِ الْكَفَالَةُ فَأَمَّا إذا ذكر في الكفالة عضو مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعُضْوُ مَا يُعَبَّرُ به عن الجملة لقوله (كَفَلْتُ لَكَ بِعَيْنِ فُلَانٍ