فَصْلٌ
فَأَمَّا بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَهِبْتُهُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فِي دَيْنٍ، وَغَيْرِ دَيْنٍ، سَوَاءً كَانَ تَدْبِيرُهُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَالْعِتْقِ النَّاجِزِ فِي الْمَرَضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا فِي الدَّيْنِ مُقَيَّدًا، كَانَ أَوْ مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ تَدْبِيرُهُ مُقَيَّدًا جَازَ بَيْعُهُ فِي دَيْنٍ، وَغَيْرِ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي دَيْنٍ وَغَيْرِ دَيْنٍ فَجَعَلَهُ لَازِمًا، إِذَا أُطْلِقَ وغير لازم إذا قيد وهو عندنا لَازِمٍ فِي الْحَالَيْنِ، احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ) .
قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ عِتْقٍ نُجِزَ إِطْلَاقُهُ بِمَوْتِ الْمُعْتِقِ، مَنَعَ من جواز البيع كأم الولد.
قالوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَفَادَ بِالتَّدْبِيرِ اسْمًا غَيْرَ اسْمِ الْعَبِيدِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَفِيدَ بِهِ حُكْمًا غَيْرَ أَحْكَامِ الْعَبِيدِ، لِأَنَّ انْتِقَالَ الِاسْمِ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْحُكْمِ، وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَبَقِيَ عَلَى حُكْمِهِ مَعَ انْتِقَالِ اسْمِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ كَالْمُكَاتَبِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِّينَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ بَاعَ مُدَبَّرًا عَلَى مَالِكِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ مَنَافِعِهِ بِالْإِجَارَةِ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَذْكُورِ إِلَى مَجَازٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دَلِيلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا بَاعَهُ فِي دَيْنٍ، وَقَدْ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ مَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِي غَيْرِ الدَّيْنِ كَالْمُعْتِقِ فِي الْمَرَضِ، قِيلَ: لَوْ كَانَ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الدَّيْنِ لَكَانَ بَيْعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، وَلَمَا جَازَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ الدَّيْنِ، وَقَدْ بَاعَهُ كُلَّهُ بِثَمَنٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْفِقْ عَلَى نَفْسِكَ، ثُمَّ عَلَى عِيَالِكَ، ثُمَّ عَلَى ذَوِي رَحِمَكَ، ثُمَّ اصْنَعْ بِالْفَضْلِ مَا شِئْتَ فَدَلَّ عَلَى بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ وَغَيْرِ الدَّيْنِ. وَقَدْ بَاعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُدَبَّرَتَهَا فِي غَيْرِ دَيْنٍ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ وَغَيْرِ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ قَوْلٌ عُلِّقَ بِهِ عِتْقٌ عَلَى صِفَةٍ تَفَرَّدَ بِهَا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ كَتَعْلِيقِهِ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ التَّدْبِيرِ، جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ كَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ عِتْقُهُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ مَعَ صِحَّتِهِ جَازَ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ عِتْقِهِ كَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَوهُ عَنْ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، فَهُوَ أَنَّهُ مِنَ الْمَنَاكِيرِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى التَّنْزِيهِ بِدَلِيلِ مَا فَعَلَهُ مِنْ بَيْعِهِ.