وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ، لَمَّا حَلَفُوا، فَقَالُوا: مَا وَفَّتْ أَمْوَالُنَا أَيْمَانَنَا، وَلَا أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا، فَقَالَ: حَقَنْتُمْ بِأَيْمَانِكُمْ دِمَاءَكُمْ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا أُقِيدُوا، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْقَوَدَ، فَلَا بِكُلِّ قَوْلِ عُمَرَ أَخَذُوا، وَلَا لِجَمِيعِهِ رَدُّوا، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِيمَا أَخَذُوهُ كَانَ حُجَّةً فِيمَا رَدُّوهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِيمَا رَدُّوهُ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا أَخَذُوهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالَ لَهُمْ: عَمِلْتُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْقَسَامَةِ بِمَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، وَلَمْ تَعْمَلُوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ، وَهُوَ حُجَّةٌ تَدْفَعُ قَوْلَ عُمَرَ، وَلَيْسَ قَوْلُ عُمَرَ حُجَّةً تَدْفَعُ قَوْلَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا خَالَفَ الْأُصُولَ مُمْتَنِعٌ، وَمَا لَمْ يُخَالِفْهَا فَتَبَعٌ، فَعَمِلُوا بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَرَدُّوا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ.
(فَصْلٌ)
: وَعَارَضَهُمُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْفَصْلِ الْخَامِسِ، فَقَالَ: وَقَدْ أَجَزْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُمْ غَيْرُ الَّذِينَ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمْ، وَرَدَدْتُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؟ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢] ، وليس الكفار بمرضيين، ولا يجعلوه مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، وَيَجْعَلُونَ الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَلَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلنَّصِّ، مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، فَأَجَابُوهُ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ أَنْ قَالُوا: إِنَّمَا أَجَزْنَا شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: ١٠٦] ، فَأَبْطَلَ جَوَابَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أوجه:
الأول: إِنْ قَالَ: سَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى بِقَوْلِهِ: " مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَلَئِنْ تَرَدَّدَ التَّأْوِيلُ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَيْنِكُمْ، وَمِنْ غير أهل قبلتكم فَحَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ، لِمُوافَقَةِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الدَّيْنِ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ مَعَ قَوْلِهِ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: ١٠٦] .
وَالثَّانِي: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ، وَكُفَّارُهُمْ مُشْرِكُونَ لَا يَقْبَلُ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَتَهُمْ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْكِتَابِ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمُسْلِمٍ، وَلَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُجِيزُهَا لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِ مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا، لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ عِنْدَهُ، وَرَدَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الشِّرْكِ عُمُومًا، وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ لِمُسْلِمٍ، وَعَلَى مُسْلِمٍ.
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: " بِمَاذَا نُسِخَتْ "؟ ، فَقَالَ: بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢] ، فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ، فَقَالَ: زَعَمْتَ بلسانك
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute