أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ.
وَالثَّانِي: لَمْ يُبَالِغْ فَإِنْ بَالَغَ فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ عَنْ سَبَبٍ مَكْرُوهٍ كَالْإِنْزَالِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْقُبْلَةِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُبَالَغَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَمْ يبالغ فيه فقولان:
أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ " فَشَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْقُبْلَةُ مَعَ الإنزال تفطر، فكذلك المضمضمة مَعَ الِازْدِرَادِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِاسْتِنْشَاقِ: " إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " خَوْفًا مِنْ إِفْطَارِهِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى رَأْسِهِ، وَلِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْحَادِثَةَ عَنِ الْأَفْعَالِ تَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ لَهَا فِي الْحُكْمِ كَالْجَنَابَةِ، يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهَا بِالْمُبَاشَرَةِ، وَالسِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ يَجِبُ أن يستوي حكم السبب فيهما، والمباشرة، ولا ذكره المزني عن قِيَاسِهِ، عَلَى الْأَكْلِ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ، ولأنه واصل إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ أَصْلُهُ الذُّبَابُ إِذَا طَارَ إِلَى حَلْقِهِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَقَعُ تَارَةً بِمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَتَارَةً بِمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ بِلَا اخْتِيَارٍ كَالْقَيْءِ وَالْإِنْزَالِ، لَا يُفْطِرُ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ بِالِاخْتِيَارِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ سَوَاءٌ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَفْطَرَ، وَإِنْ تَوَضَّأَ لِفَرِيضَةٍ لَمْ يُفْطِرْ، لِأَنَّهُ فِي الْفَرِيضَةِ مُضْطَرٌّ، وَفِي النَّافِلَةِ مُخْتَارٌ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِأَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا.
وَالثَّانِي: إِنَّ حُكْمَ الْفِطْرِ فِي الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، فَأَكَلَ خَوْفَ التَّلَفِ أَفْطَرَ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْأَكْلَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ أَفْطَرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أسيرٍ فَتَحَرَّى شَهْرَ رَمَضَانَ فَوَافَقَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute