وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: قَالَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا، هَلْ يَكُونُ تَفْرِيقُ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا شَرْطًا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ شَرْطًا، وَقَدْ حَرُمَتْ أَبَدًا سَوَاءٌ افْتَرَقَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّحْرِيمِ لَا تَقِفُ عَلَى الْحُكْمِ كَالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ شَرْطٌ فِي تَأْبِيدِ هَذَا الْحُكْمِ كَاللِّعَانِ، وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ: هُمَا دَلِيلٌ وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَالَمِ وَالْجَاهِلِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِمَ بِالتَّحْرِيمِ مَزْجُورٌ فَاسْتَغْنَى عَنِ الزَّجْرِ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِهَا عليه والجاهل به غيره مزجوراً بِالْحَدِّ فَزُجِرَ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَاهِلَ بِالتَّحْرِيمِ مُفْسِدٌ لِلنَّسَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ فَزُجِرَ عَلَى إِفْسَادِهِ بِتَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ وَالْعَالِمَ بِهِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ فِيهِ فَلَمْ يُزْجَرْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ لِعَدَمِ إِفْسَادِهِ فَهَذَا دَلِيلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ، وَمَذْهَبُ مَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ جَمِيعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا ثُمَّ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَأْثَمِ بِالْجَهْلِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْرُمَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ غَيْرِهَا عَلَى الْوَاطِئِ وَتَحْرِيمَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاطِئِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَلَالَ الْوَطْءِ وَحَرَامَهُ مِنْ نِكَاحٍ وَزِنًا لَا يُوجِبُ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَهَذَا الْوَطْءُ مُلْحَقٌ بِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ لِلْفَرْقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ لَا يَكُونُ بِالتَّحْرِيمِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ، وَالْجَاهِلُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنَّسَبِ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِيفُ وَلَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَالْعَالِمُ هُوَ الْمُفْسِدُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَضَافَ وَلَدَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَبَطَلَ بِهِ الْفَرْقُ الثَّانِي.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاطِئُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَوْطُوءَةُ جَاهِلَةً بِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا وَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِشُبْهَتِهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَلَا تَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ بِشُبْهَةٍ دُونَهُمَا وَلَا يَنْقَطِعُ بِوَطْئِهِ عِدَّةُ الْأَوَّلِ: لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ بِهِ فِرَاشًا وَيَكُونُ مَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ اجْتِمَاعِهِمَا مُحْتَسِبًا بِهِ مِنْ عِدَّةِ الْأَوَّلِ فَتُبْنَى عَلَيْهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا وَيَجْرِي عَلَى هَذَا الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْوَاطِئِ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَفِي حق