للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلو لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤] فغلظ بثلاثة أشياء: الحد، والفسق، وَالْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يُوجِبْ بِالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنَ الْكُفْرِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَعَرُّ وَهُوَ بِالنَّسْلِ أَضَرُّ، وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالْكُفْرِ يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ الزِّنَا عَنْ نَفْسِهِ، وَجَعَلَ حَدَّهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا أَقَلُّ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا فَكَانَ أَقَلَّ حَدًّا مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَاسَ عَلَيْهِ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هذي افترى، وحد المفتري ثمانون، والله أعلم.

[(فصل)]

[الشروط المعتبرة في القاذف والمقذوف]

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً فَهُوَ أَكْمَلُ حُدُودِهِ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ بِشُرُوطٍ فِي الْمَقْذُوفِ وَشُرُوطٍ فِي الْقَاذِفِ. فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَقْذُوفِ فَخَمْسَةٌ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعِفَّةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي حَدِّ القاذف إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: ٤] فاعتبر بالبلوغ لنقص الصغر، واعتبر بالعقل لنقص الجنون، واعتبر بالحرية لنقص الرق، واعتبر بالإسلام لنقص الكفر، واعتبر بالعفة لنقص الزنا ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤] فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَتَوْا بِالشُّهَدَاءِ لَمْ يُحَدُّوا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور: ٢٣] إنه أراد الغافلات عن الفواحش بتركها، وإن كَانَ الْمَقْذُوفُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ على قاذفها لأمرين:

أحدهما: لنقصانهما عَنْ كَمَالِ الْإِحْصَانِ.

وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَا حَدٌّ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُمَا بِالْقَذْفِ حَدٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ عَبْدًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِعُمُومِ الظاهر، ولأنه يحد بالزنا فحد له القاذف بِالزِّنَا كَالْحُرِّ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِيهِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا شُرِطَا فِيهِ، وَلِأَنَّ فعل الزنا أغلظ من القذف، فلما منعه نقص الرِّقِّ مِنْ كَمَالِ حَدِّ الزِّنَا كَانَ أَوْلَى أن يمنع من حد قذفه بالزنا، ولأنه لما منعه نقص الرِّقِّ أَنْ تُؤْخَذَ بِنَفْسِهِ نَفْسُ حُرٍّ كَانَ أولى أن يمنع أن يؤخذ بعرضه عن عوض حر.

فإن قيل: ينبغي إِذَا قَذَفَهُ عَبْدٌ مِثْلُهُ أَنْ يُحَدَّ لِقَذْفِهِ كما يقتص بقتله.

قِيلَ: هَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ قَدْ عَدِمَ شَرْطَ الْإِحْصَانِ فَسَقَطَ حَدُّ قَذْفِهِ وَإِنْ سَاوَاهُ الْقَاذِفُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَ عَفِيفٍ فَقَذَفَهُ غَيْرُ عَفِيفٍ لَمْ يُحَدَّ وَإِنِ اسْتَوَيَا في سقوط

<<  <  ج: ص:  >  >>