فَهَذَا مَمْلُوكٌ لَهُ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَمَتَى غَصَبَ غَاصِبٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَهُوَ كُلُّ مَا نَبَعَ فِي مِلْكِهِ مِنْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرٌ مَا لَمْ يَدْخُلِ الْمَاءُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي الْمَاءِ فِي الدَّارِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَدْخُلُ فِي الدَّارِ تَبَعًا، وَمَنْ قَالَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا قَالَ: إِذَا شَرَطَ صَحَّ الْبَيْعُ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي الْبِئْرِ مِنَ الْمَاءِ وَأَجَزْتُمْ هَا هُنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْبِئْرَ مَعَ مَائِهَا فَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْمَاءَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ إِلَى أَنْ يُسَلَّمَ قَدْ بِيعَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَاخْتَلَطَ بِهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا السَّقْيُ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُبَاحَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَاءُ نَهْرٍ عَظِيمٍ مِثْلِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا وَالنَّاسُ فِي السَّقْيِ مِنْهُ شَرْعٌ سَوَاءٌ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ.
وَالثَّانِي: مَاءٌ مُبَاحٌ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَلَا يَسْعُ جَمِيعَ الْأَرَاضِي إِذَا سُقِيَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيَقَعُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نِزَاعٌ فَهَذَا يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي سَرَاحِ الْحُرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرَحُ الْمَاءِ يَمُرُّ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ " فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجِدْرِ " قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: ٦٥) الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى فَإِذَا اسْتَكْفَى أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَاصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُرُورِ السُّبُلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَحْبِسُهُ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ لِكِي يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِصَّةِ الْبِئْرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْرَهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ، ويرسل
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute