أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَوَاحِشَ الزِّنَا خَاصَّةً، وَمَا ظَهَرَ منها الأنكحة الْفَاسِدَةُ، وَمَا بَطَنَ السِّفَاحُ الصَّرِيحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَوَاحِشَ جَمِيعُ الْمَعَاصِي، وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَمَا بَطَنَ اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بغير الحق} فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ الْجِنَايَةُ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْبَغْيَ التَّعَدِّي عَلَى النُّفُوسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ الْخَمْرُ، وَالْبَغْيَ السُّكْرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَاهِدَهُمَا، فَسَمَّاهُمَا بِمَا يَحْدُثُ عَنْهُمَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الخمر فقد اختلف أهل العلم بأيهما وقع التحريم على ثلاثة أقاويل:
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ كان بالآية الأولى في سورة البقرة، في قوله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كبير} [البقرة: ٢١٩] وقرأ حمزة والكسائي كثير لأنه ما كثر إثمه لم يجز اسْتِبَاحَتُهُ، فَوَقَعَ بِهَا التَّحْرِيمُ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا مُؤَكِّدًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ اسْتَقَرَّ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الأعراف من قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ لِمَا فِيهَا مِنْ صَرِيحِ التَّحْرِيمِ وَفِي غَيْرِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ: وعليه اكثر العلماء، أن تحريم الخمر استقر بآية المائدة من قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} إلى قوله: {فهل انتم منتهون} .
روى عبد الوهاب عن عوف بن أبي القموص عن زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في الخمر ثلاث مرات، فأول ما أنزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: ٢١٩] فَشَرِبَهَا قَوْمٌ وَامْتَنَعَ عنها قَوْمٌ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] فامتنعوا عنها، فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَشَرِبُوهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصلاة، ثم أنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا، فَاسْتَقَرَّ بِهَا التَّحْرِيمُ فَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا عِنْدَ تَحْرِيمِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ شربوها، وماتوا قبل تحريمها، فأنزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا