والثاني: أن العبد متهوم فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إِضْرَارًا بِسَيِّدِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ مِلْكِهِ فَصَارَ كَإِقْرَارِ الْجَانِي بِالْخَطَأِ لَا يُقْبَلُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَرْشَ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ كَالْمُقِرِّ بِقَتْلِ الْخَطَأِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمِ الْعَاقِلَةَ لَزِمَتْهُ فِي ذِمَّتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهَا مَقْبُولٌ عَلَى السَّيِّدِ وَيَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقَوَدَ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وزفر ومحمد بن الحسن وَدَاوُدُ إِنَّ إِقْرَارَهُ بِهَا مَرْدُودٌ كَالْمَالِ لِأَنَّهُ مُقِرٌ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كلما لَوْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يُقْبَلْ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ قُبِلَ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْمَالَ لَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ قُبِلَ كَانَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلِأَنَّهُ إِقْرَارٌ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ فِيهِ، وَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ نَفْسِهِ إِضْرَارًا لِغَيْرِهِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ الْمَالُ حَيْثُ لَمْ يَمْضِ إِقْرَارُهُ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مِنْ حِرْزِهَا يُقْطَعُ فِي مِثْلِهَا قَطَعْنَاهُ وَإِذَا صَارَ حُرًّا أَغْرَمْنَاهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا لِلَّهِ فِي يَدَيْهِ فَأَخَذْنَاهُ وَالْآخَرُ لِلْنَاسِ فِي مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ فَأَخَّرْنَاهُ بِهِ كَالْمُعْسِرِ نُؤَخِّرُهُ بِمَا عَلَيْهِ فَإِذَا أَفَادَ أَغْرَمْنَاهُ وَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ فِي مَالِ سيده ".
قال المزني: هذا غلط لأن هذا إن كان صادقا فإن يغرم على مولاه فيقطع ويغرم مولاه، وإن كان كاذبا فذلك أبعد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَالٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَطْعُ فِيهَا أَوْ لَا يَلْزَمُهُ فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَطْعُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ عَلَى سَيِّدِهِ وَكَانَ كَالْمَالِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ عن إتلاف أو جناية ويكون في ذمة يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ.
فَإِنْ لَزِمَهُ الْقَطْعُ قُطِعَ فِي الْحَالِ، لَا يُخْتَلَفُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ فِي يَدِهِ يُنَفِّذُ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ السَّيِّدِ لَهُ.
فَأَمَّا الْغُرْمَ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتُهْلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فِي يَدِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فِي يَدِ سَيِّدِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: