عاهدتم عند المسجد الحرام بما اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: ٧] حَتَّى نَقَضَتْ قُرَيْشٌ الْعَهْدَ بِمَعُونَةِ أَحْلَافِهِمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى قِتَالِ أَحْلَافِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خُزَاعَةَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ سَنَةَ ثَمَانٍ حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ، وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ عَظِيمَ الْبَرَكَةِ أَسْلَمَ بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ إِرَادَةِ الْهُدْنَةِ مِنْ ثلاثة أحوال:
أحدهما: أَنْ تَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَهُمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جِهَادَهُمْ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:] .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ لَكِنَّ لَهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَنْفَعَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجُو بِالْمُوَادَعَةِ إِسْلَامَهُمْ، وَإِجَابَتَهُمْ إِلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ، أَوْ يَكُفُّوا عَنْ مَعُونَةِ عَدُوٍّ ذِي شَوْكَةٍ أَوْ يُعِينُوهُ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَمَا دُونَهَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: ١] وَأَعْطَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَبْلُغَ بِمُدَّةِ مُوَادَعَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ سَنَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْجِزْيَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ فِيهَا مُشْرِكٌ إِلَّا بِهَا، فَأَمَّا مَا دُونَ السَّنَةِ وَفَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَفِي جَوَازِ مُوَادِعَتِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نص عليه هاهنا، وَفِي الْجِزْيَةِ مِنْ كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فجعلها حدا لغاية الموادعة.
والقول الثانية: نَصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ الْوَاقِدِيِّ، يَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ مَا دُونُ السَّنَةِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهَا دُونَ مُدَّةِ الْجِزْيَةِ كَالْأَرْبَعَةِ مَعَ عُمُومِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١]
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ، وَهُمْ عَلَى ضَعْفٍ يَعْجِزُونَ مَعَهُ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَهُمُ الْإِمَامُ إِلَى مُدَّةٍ تَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَكْثَرُهَا عَشْرُ سِنِينَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَا أَغْلَالَ فِيهَا، وَلَا أَسْلَالَ، وَدَامَتْ هَذِهِ الْمُهَادَنَةُ سَنَتَيْنِ حَتَّى نَقَضُوهَا فَبَطَلَتْ فَإِنِ احْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ عَنْ حَظْرٍ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِئْنَافِ وَالتَّخْصِيصِ، وَقِيلَ لِلْإِمَامِ: اعْقِدِ الْهُدْنَةَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا انْقَضَتْ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ اسْتَأْنَفْتَهَا عَشْرًا ثَانِيَةً، فَإِنْ عَقَدَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ بَطَلَتِ الْهُدْنَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَشْرِ، وَفِي بُطْلَانِهَا فِي الْعَشْرِ قَوْلَانِ، مِنْ تَفْرِيقِ الصفقة:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute