أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ نُسُكٌ، وَلِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ، " وَمَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ".
وَالْقَوْلُ الثاني: نص عليه في الإملاء: هو اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نُسُكًا وَاجِبًا لَا يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لِلْمُقِيمِ، وَالْحَائِضُ يَلْزَمُهُمَا بِتَرْكِهِ دَمٌ لَمْ يَكُنْ نُسُكًا لِغَيْرِ الْمُقِيمِ وَالْحَائِضِ وَلَمْ يَلْزَمْ بِتَرْكِهِ دَمٌ، فَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ نَظَرَ، فَإِنْ ذَكَرَهُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ وَذَلِكَ دُونَ الْيَوْمِ والليلة رجع وطاف طَوَافَ الْوَدَاعِ لِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه رد رجل لم يودع البيت من مَرٍّ، وَإِنْ ذَكَرَهُ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِي مثلها الصلاة وذلك يوم وليلة فظن لَمْ يَعُدْ؛ لِاسْتِقْرَارِ فِرَاقِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ وَاجِبًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَاسْتِحْبَابًا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَلَوْ عَادَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ لاستقراره عليه، وكان مبتدأ للدخول حرم إِذَا دَخَلَ وَيُوَدِّعُ إِذَا خَرَجَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وطواف الوداع لا رمل فيه ولا اضطباع، لِأَنَّهُ طَوَافٌ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِذَا خَرَجَ مُوَدِّعًا وَلَّى ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ يُرْجِعِ الْقَهْقَرَى كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُتَنَسِّكِينَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سُّنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ وَلَا أَثَرٌ مَحْكِيٌّ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَفَلَ مِنْ جَيْشٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عمرة فأرفأ عَلَى ثنيةٍ أَوَ فدفدٍ قَالَ آمِنُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا دُخُولُ الْبَيْتِ فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حسنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سيئةٍ وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ فِي دُخُولِهِ وَحَثٌّ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيِّبُ النَفْسِ ثُمَ رَجَعَ إِلَيَّ وَهُوَ حَزِينٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي وَأَنْتَ كَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ: " إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لم فعلت، إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ دُخُولَهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إلا تائب منيب قد أفلح عَنْ مَعَاصِيهِ وَأَخْلَصَ طَاعَتَهُ، فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الله بن سليط عن عبد الله بن عُمَرَ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٍ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فلما انتهى إليهم سلم عليهم ثُمَ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّهَا مَسْؤُولَةٌ عَمَّا يُفْعَلُ فِيهَا وَإِنَّ سَاكِنَهَا لَا يَسْفِكُ دَمًا وَلَا يمشي بالنميمة.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ وداعٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لَهَا أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وداعٍ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute