للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا إِذَا لَمْ تَرَ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ دون مجازه في الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةٍ وَإِرَادَةٍ، كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ: زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ، هُوَ الصُّعُودُ إِلَيْهِ وَالتَّرَقِّي فِيهِ، يُقَالُ زَنَأَ يَزْنَأُ وَزَنْوًا إِذْ صَعَدَ فِيهِ، وَزَنَى يَزْنِي زِنًا، إِذ فَجَرَ، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَالْقَصْرُ أَكْثَرُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِيقَةِ اللِّسَانِ وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَشْهُوره، حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ كَانَتْ تُرَقِّصُ ابْنًا وَهِيَ تَقُولُ:

(أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ أَوْ أَشْبِهْ جَمَلْ ... وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكَلْ)

(يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلْ ... وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأْ فِي الْجَبَل)

قَوْلُهَا: " أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ " يَعْنِي أَبَاهَا الَّذِي هُوَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ.

وَأَشْبِهْ جَمَلْ هُوَ نَجِيبٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَلَعَلَّهُ أَبُوهُ، وَمَعْنَاهُ أَشْبِهْ هَذَا أَوْ هَذَا، وَلَا تَكُونُنَّ كَهِلَّوْفٍ.

الْهِلَّوْفُ: الرَّجُلُ الْجَافِي الْعَظِيمُ.

والوكل: الضعيف، معناه لَا تَكُونُنَّ رَجُلًا ثَقِيلَ الْجِسْمِ مُسْتَرْخِيًا.

يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلَ، يَعْنِي وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجِدَالَةَ.

وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَعْنَاهُ وَاصْعَدْ إِلَيْهَا. زَنَّأْ فِي الْجَبَلِ: أَيْ كَصُعُودِكَ فِيهِ وَمَعْنَاهُ إنَّكَ تَعْلُو بِصُعُودِكَ إِلَى الْخَيْرَاتِ كَمَا تَعْلُو بِصُعُودِكَ فِي الْجَبَلِ. وَهَذَا لِسَانُ مَنْ قَدْ فُطِرَ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّفْهَا فَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ حَقِيقَةً فِي مَعَانِيهَا. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِزَنَأَ فِي الْجَبَلِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَا أَنْ يُعَلِّقَ الْحُكْمَ فِيهِ بِمَجَازِهِ، وَلِأَنَّ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الصُّعُودِ وَحَقِيقَةً فِي الْفَاحِشَةِ لَكَانَ مَا قُرِنَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْجَبَلِ يَصْرِفُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْفُجُورِ الصُّعُودِ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ تَصْرِفُ حَقَائِقَ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى حَقَائِقِ قَرَائِنِهَا.

أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وِثَاقٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّ الْقَرِينَةَ بِقَوْلِهِ: مِنْ وِثَاقٍ قَدْ صَرَفَتْهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ زَنَأْتِ فِي الْجَبَلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: زَنَأْتِ وَلَمْ يُقِلْ فِي الْجَبَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ قَذْفًا، وَكَانَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الثَّانِي قَذْفًا، فَصَارَ عَلَى وَجْهَيْنِ وَفِيمَا أَوْضَحْنَاهُ مِنْ هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ انْفِصَالٌ عَمَّا تَقَدَّمَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا استوضح.

[(مسألة)]

قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَوْ قَالَ وَأَنْتِ نَصْرَانِيَّةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>